طريق الميرزا
وذهب الميرزا إلى فإنّ الملاك الصحيح لحمل المطلق على المقيَّد هو القرينية، لأنّ غاية ما ذكر في الدفاع عن وجه (الكفاية) هو وجود الدلالة الوضعيّة ـ إلى جنب الدلالة الإطلاقية ـ في المقيَّد، لكنّ هذا القدر لا يكفي لأنْ يتقدّم على المطلق، إلاّ أنْ يكون بياناً له، وحينئذ ينتفي الإطلاق في طرف أعتق رقبةً، وهذا خلاف الفرض.
كما أنّ وجه الشيخ يتوقّف على أنْ يكون المقيَّد بياناً، فيقع الإشكال المذكور، وأمّا لو لم يكن بياناً لم يكن صالحاً للتقدّم.
أمّا مبنى الميرزا فمفاده: أنّ المقيَّد قرينةٌ بالنسبة إلى المطلق، ومعها تسقط أصالة البيان في ناحيته، وملخّص الاستدلال هو:
إنّ مقتضى القاعدة تقدّم الأصل في السبب على الأصل في المسبب، وهذا التقدّم من باب الحكومة، وقد قرّرت هذه القاعدة في تنبيهات الاستصحاب، ومثالها المعروف هو غسل الثوب النجس بالماء المشكوك الطهارة… غير أنّ الأصل في الماء والثوب هو الإستصحاب وهو أصل عملي، والأصل فيما نحن فيه لفظي، ولا فرق في القاعدة من هذه الجهة.
إنَّ كلّ دليل حاكم نسبته إلى الدليل المحكوم نسبة السبب إلى المسبّب، فأصالة الظهور في طرف المطلق وكذا في طرف المقيَّد تامّة، لكنَّ المقيَّد قرينةٌ والمطلق ذو القرينة، وفي ذات القرينة حيثيّة البيانية كما أنْ في ذات ذي القرينة حيثية المبيَّنة، فتكون أصالة الظهور في ذي القرينة مسبَّبةً لأصالة الظّهور في القرينة. وإنْ شئت فقل: إنّ أصالة الظهور في طرف ذي القرينة معلَّقة، لكنها في طرف القرينة غير معلَّقة، فلا محالة يتقدَّم القرينة على ذيها، بمقتضى القاعدة المذكورة.
ومن هذا الباب تقدُّم ظهور «يرمي» على ظهور «الأسد» ورفع اليد عن مقتضى أصالة الحقيقة فيه، وحمله على المعنى المجازي وهو «الرجل الشجاع»، لأنَّ حمل لفظ الأسد على معناه الحقيقي «الحيوان المفترس» موقوفٌ على جريان أصالة الحقيقة فيه، وجريانها معلَّق على عدم وجود القرينة المانعة، إذ الإهمال في الواقعيات محال، وجريانها حتى مع وجود القرينة غير صحيح، وإلاّ يلزم أنْ لا يكون عندنا استعمال مجازي أصلاً، والمفروض وجود «يرمي» الظاهر في رمي النبل، والذي ظهوره فيه غير معلَّق على شيء، فكانت أصالة الحقيقة في «الأسد» معلَّقة على عدم وجود القرينة المانعة، و«يرمي» تمنع عن انعقادها، ولكونها بياناً وقرينةً تتقدَّم.
وتلخَّص: أنّه مع وجود أصالة الظهور في القرينة، لا يبقى موضوع لأصالة الظهور في ذي القرينة.
ثم إنّ الملاك للقرينيّة هو الظهور العرفي، فإنَّ نسبة القرينيّة موجودة بكلّ وضوح بين الصّفة والموصوف، والحال وذي الحال، وكلّ تابع ومتبوع، ومتى ما وقع الشك عند العرف العام في القرينيّة يكون الكلام مجملاً.
وبعد تماميّة القرينيّة من الناحية الصغرويّة، فقد تكون القرينة متّصلة وقد تكون منفصلةً.
فإن كانت متّصلةً، فهي قرينة على المراد في مرحلة الدلالة التصديقيّة، وهي المرحلة التي يستعمل فيها اللّفظ في معناه الموضوع له وينعقد للكلام الظهور وينسب إليه المدلول، كما لو قال: أعتق رقبةً مؤمنةً، وذلك يتحقّق بفراغه من الكلام بقيوده.
وهذه هي الدلالة التصديقيّة الاولى.
والدلالة التصديقية الثانية هي مرحلة الإرادة الجديّة، فإنه بعد انعقاد الظّهور لابدَّ من ثبوت أنّ هذا الظاهر هو المراد للمتكلّم وأنه لم يقصد المزاح أو الإمتحان مثلاً، وذلك يتمّ في حال عدم إتيان المتكلّم بالقرينة المنفصلة الصارفة للّفظ عن المعنى الظاهر فيه، فإنْ جاء القيد المنفصل فهو، وإلاّ فالأصل في الكلام عقلاءً هو الجدّ لا الهزل والإمتحان وما شابه.
وبعبارة اخرى، فإنّه بمجرّد انقطاع الكلام يستقرُّ له الظهور في معناه، فإنْ أقام قرينةً منفصلةً على خلاف الظاهر، فإنّها لا تضرّ بالظهور وإنّما تحول دون حجيّته.
وهذا تمام التوضيح لكلام الميرزا في المقام.
Menu