دليل عدم المفهوم
إنه وإنْ كفى عدم الدليل للعدم، لكنهم مع ذلك يذكرون له وجهاً نقضيّاً وآخر حلّياً.
أمّا نقضاً، فإن القول بالمفهوم هنا يستلزم القول بثبوته في اللّقب، ولم يقل به أحد. وبيان الملازمة هو: أنه لا فرق بين الوصف واللقب إلاّ بالإجمال والتفصيل، لأنّ معنى قولك: الفقير يجب إكرامه هو: الإنسان الفقير يجب إكرامه، نعم، فرق بين العنوان الوصفي حيث يقع التفكيك بين الوصف والذات والعنوان الذاتي، لكنّ هذا الفرق لا أثر له في المقام.
وأمّا حلاًّ، فقد ذكر الميرزا ما حاصله: إن المفهوم يتقوّم بأمرين أحدهما: أنْ يكون الحكم سنخاً لا شخصاً. والآخر: أن يكون التقييد مولويّاً حتى يكون الإنتفاء عند الإنتفاء مستنداً إليه وتكون العلة منحصرةً، فلو كان الإنتفاء عقلياً خرج عن البحث، كما لو كان الحكم المنتفي شخصيّاً.
وهذا الأمران موجودان في الشرط كما تقدّم. أمّا في الوصف فلا، لأنّ القيد قيدٌ للموضوع لا للحكم، وتقييد الموضوع متقدم رتبةً على الحكم والنسبة، فإذا انتفى القيد ينتفي الحكم عقلاً، لأن انتفاء كلّ حكم بانتفاء موضوعه عقلي ولا ربط له بالمولى….
لكنْ لقائل أن يقول: إنّ كلّ ما اقتضى دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم فهو موجود في الوصف كذلك، إذ التقييد في كليهما مولوي، غير أنّ القيد جاء في الشرط على الحكم أوّلاً وبالذات، أمّا في الوصف فثانياً وبالعرض، وهذا المقدار من الفرق لا يكون فارقاً، لأنّ التقييد يرجع إلى المدلول وليس عقليّاً، كما أنّ الإنحصارية أيضاً موجودة في الوصف ـ من جهة ظهور أخذه دون غيره في الانحصار ـ كما أنها موجودة في الشرط، فلماذا يقال هناك بالمفهوم ولا يقال هنا؟
لقد ذكر المحقق العراقي فارقاً آخر وأفاد ما حاصله(1): إن الحكم المعلَّق على الوصف، يأتي بنحو الطبيعة المهملة ويستحيل الإطلاق فيه، وما يكون كذلك فلا مفهوم له. بخلاف الشرط، فإنه قابل للإطلاق فتجري فيه ثبوتاً أصالة الإطلاق ويخرج الحكم بذلك عن الإهمال، وإذا كان مطلقاً وعلّق على الشرط فلا محالة ينتفي بانتفاء الشرط، وهذا هو المفهوم.
مثلاً: إذا قال: أكرم زيداً العالم، لا يكون للإكرام إطلاق بالنسبة إلى عمرو وبكر وخالد وغيرهم من الأفراد، كما لا دلالة له على الإطلاق بالنسبة إلى أحوال زيد من القيام والقعود وغيرها. أمّا في إذا جاءك زيد فأكرمه، فإنّ الحكم بوجوب الإكرام كان مطلقاً لا مهملاً لو لم يقيّد بالمجيء، فلمّا قُيد ثبت له المفهوم.
والحاصل: إن الحكم في الشروط هو المطلق والسنخ، وفي الوصف مهمل جزئي، فلذا دلّ في الشرط على المفهوم ولم يدل عليه في الوصف.
يبقى أنه ربما يكون في بعض الروايات دلالة على ثبوت المفهوم للوصف، من جهة استدلال الإمام عليه السلام به على الحكم، كما في الخبر عن موسى بن بكر عن زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «وما خلا الكلب مما تصيد القيود والصقور وأشباه ذلك، فلا تأكل من صيده إلاّ ما أدركت ذكاته، لأن اللّه عزّ وجل يقول: (مُكَلِّبينَ)(2)، فما كان خلاف الكلب فليس صيده بالذي يؤكل الاّ إن تدرك ذكاته»(3).
وسند الخبر عندنا معتبر لوثاقة موسى بن بكر. وأمّا دلالةً فإن الإمام عليه السلام تمسّك للحكم بكلمة (مُكَلِّبينَ) في الآية، فدلّت على أن غير الكلب لا يؤكل صيده.
وقد جاء الخبر في تفسير العياشي مرسلاً.
لا يقال: لعلّ هذا التعليل من الإمام عليه السلام تعبّدي.
لأنه يقال: التعبّد خلاف الأصل، بل الظاهر أن للوصف دخلاً في المعنى.
لكنّ التحقيق ما تقدم في أثناء البحث، من أنّ تقييد الموضوع بقيد قد يكون لدفع التوهّم، نظير الآية (لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ)(4) ونظير قوله عليه السلام «إيّاك وظلم من لا يجد ناصراً عليك إلاّ اللّه»(5)… فليس للوصف مفهومٌ، وإنّما يقيّد الكلام به لغرض آخر غير المفهوم، وفي رواية زرارة كذلك.
وهذا تمام الكلام في مفهوم الوصف.
(1) نهاية الأفكار (1 ـ 2) 499.
(2) سورة المائدة: الآية 4.
(3) وسائل الشيعة 23 / 339، الباب 3 من أبواب الصيد، رقم: 3.
(4) سورة الإسراء: الآية 31.
(5) وسائل الشيعة 16 / 48، الباب 77 من أبواب جهاد النفس، رقم: 6.