دليل الجواز
وقد اُقيمت وجوه لجواز التمسّك:
الوجه الأول: قاعدة المقتضي والمانع، والأصل فيها هو المحقّق الشيخ هادي الطهراني وملخّص ذلك: إنه كلّما علم بالمقتضي وشك في المانع فالأصل عدمه، والعام وزانه وزان المقتضي ووزان الخاص وزان المانع، فمن علم بكونه من العلماء وشك في عدالته وفسقه فهو من أفراد العام وحكمه وجوب الإكرام، ولا يصلح المخصص للمانعيّة للشك في كونه فاسقاً.
وفيه:
أمّا من الناحية الكبروية، فسيأتي البحث عن هذه القاعدة في مباحث الاستصحاب، وملخّص المقال هو: إنّ المفروض وجود إحتمال الفسق والعصيان أي المانع عن المقتضي، فإنْ كان الرافع له هو الأصل وليس إلاّ إستصحاب العدم فهو أصل مثبت، نظير ما إذا صبّ الماء على اليد وشك في وجود الحائل المانع، فإن أصالة عدم الحائل بالنسبة إلى تحقق الغسل أصل مثبت. وإنْ كان الرافع له هو الدليل، فلا دليل لا شرعي ولا عقلي، وإنْ كان الرافع هو السيرة العقلائية، فلا ريب في أنه ليس من سيرتهم البناء على عدم المانع مع العلم بثبوت المقتضي وشموله للمورد.
وتلخّص: عدم تمامية القاعدة المزبورة.
وأمّا من الناحية الصغرويّة، فقد أشكل الميرزا(1) بأن عنوان المخصص لا ينحصر في كونه من قبيل المانع، بل ربما يكون من قبيل الشرط أو الجزء كما في قوله عليه السلام: «لا صلاة إلاّ بطهور»(2) أو «بفاتحة الكتاب»(3). فلا تكون القاعدة دليلاً على جواز التمسّك في جميع الموارد، فالدليل أخصّ من المدّعى.
واُجيب في التعليقة: بأنّ مثل هذا التركيب خارج عمّا نحن فيه، لأنّ محلّ الكلام إنّما هو ما إذا ورد حكم تكليفي أو وضعي على عام قد خرج عنه بعض مصاديقه، ومن الواضح أنه ليس الأمر في التراكيب المزبورة كذلك، لأنّ ظاهر «لا صلاة إلاّ بطهور» عرفاً هو عدم تحقّق الصّلاة شرعاً أو عقلاً إلاّ عند اقترانها بالطهارة… فالنقض به غير وارد.
وفيه: إنه ليس محلّ الكلام خصوص ما ذكره، بل يمكن أن يكون المخصّص عنواناً وجودياً وليس من قبيل «لا صلاة إلا بطهور»، كما لو قال: أكرم كلّ عالم ثم قال: يجب إكرام العلماء العدول… فما ذكره الميرزا من أخصيّة الدليل من المدّعى تام.
وتلخص: سقوط الدليل من حيث الكبرى والصغرى.
الوجه الثاني: إن تماميّة الحجة من قبل المولى موقوفة على إحراز الكبرى والصغرى معاً، فما لم يحرزا لم تتم، وفي المقام وإنْ كانت الحجيّة تامة من ناحية العام من حيث الكبرى والصغرى، إلاّ أنها غير تامة من ناحية الخاص من حيث الصغرى، ولذا يكون العام حجةً بالنسبة إلى الصغرى المردّدة ولا يزاحمه الخاص فيها… ففي المثال المعروف نرى انطباق «أكرم كلّ عالم» على زيد العالم المشكوك في عدالته، لأنّ المفروض إحراز العالميّة فيه، فالعام بعمومه شاملٌ له، فالحجة على وجوب إكرامه تامّة، لكنّ انطباق الخاص: «لا تكرم العالم الفاسق» عليه غير تام لعدم إحراز كونه فاسقاً، فلا حجيّة له بالنسبة إليه، وما ليس بحجّة لا يزاحم الحجّة وهو العام المفروض شموله له.
أجاب في (الكفاية): بأنّه في غاية الفساد. (قال): فإنّ الخاص وإنْ لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً، إلاّ أنه يوجب اختصاص حجيّة العام في غير عنوانه من الأفراد، فيكون أكرم العلماء دليلاً وحجةً في العالم غير الفاسق، فالمصداق المشتبه وإنْ كان مصداقاً للعام بلا كلام، إلاّ أنه لم يعلم أنه من مصاديقه بما هو حجة، لاختصاص حجيته بغير الفاسق(4).
وتوضيح ذلك هو: أنّ للعام ظهوراً وحجيّةً ـ أي كاشفيّةً عن المراد الجدّي ـ فالفرد المشتبه وإنْ أحرز كونه عالماً وأنّ العام يشمله بظهوره، لكنّ إحراز حجيّته بالنسبة إلى هذا الفرد أوّل الكلام، ومن الواضح ترتب الأثر على الحجيّة لا الظهور. فما أحرز ليس بموضوع للأثر، وما هو موضوع الأثر فلم يحرز، فكيف يتمسّك بالعام؟
وأمّا الخاصّ، فإنّه لا يمكنه تعيين الفرد، لما تقدّم من أنّ الدّليل لا يتكفّل الموضوع.
ثم إنه قد يقوّى الاستدلال بما ذكره الشيخ رحمه اللّه من إجراء البراءة في الشبهات الموضوعيّة حيث قال: إن قوله «لا تشرب الخمر» لا يكون حجةً إلاّ على من ثبت عنده الكبرى والصغرى معاً وضمّ إحداهما إلى الاخرى، ومع الشك في أنّ هذا المائع خمرٌ أو لا؟ فالصغرى غير محرزة، فهي مجرى البراءة دون قاعدة الإشتغال.
فقال السيد البروجردي: بأنَّ الكبرى حجّة بنفسها في مقام تشخيص الحكم الشرعيّ الكلّي، ولا نحتاج في ذلك إلى وجود الموضوع خارجاً. نعم، حجّيتها بالنسبة إلى الخارجيات لا تتصوّر إلاّ بعد تشخيص الصغرى، فههنا مقامان: مقام حجيّة العام بنفسه ومقام حجيّته بالنسبة إلى الخارجيات، والمحتاج إلى الصغرى هو الثاني دون الأوّل، فقول المولى أكرم العلماء ـ مثلاً ـ حجّة على العبد ويجب عليه الفحص عن الموضوع أو عن حاله (قال) ولذلك بعينه نستشكل على ما ذكره الشيخ لإجراء البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية، فإن الظاهر عدم جريانها فيها، نعم، يجري فيها البراءة الشرعية(5).
فأورد عليه الشيخ الأُستاذ: بأنه إذا كانت العقليّة غير جارية، فكذلك الشرعيّة، لأن موضوعها الحكم الذي لا يعلم، إذ القابل للوضع والرفع إنما هو الحكم، فإذا لم يعلم به، فكيف يصحُّ القول بتماميّة البيان بالنسبة إليه؟ فالتفكيك بين البراءة العقلية والشرعية غير صحيح.
لكنّ مراد الشيخ قدس سره هو: إن الأحكام جميعاً بنحو القضايا الحقيقيّة، فهي تنحلُّ إلى أحكام بعدد الموضوعات، وتَتعدَّد الإطاعات والمعاصي، فالحكم في كلّ شبهة موضوعية مجهول، ولا يدلّ عليه الحكم الكلّي، ومع الجهل به تجري البراءة العقلية والشرعية كلاهما.
الوجه الثالث: إن العام ظاهرٌ في الشمول بالنسبة إلى أفراده، وله ظهورٌ إطلاقي بالنسبة أحوال تلك الأفراد، فلما قال «أكرم كلّ عالم» أفاد وجوب إكرام جميع مصاديق العالم، وعلى جميع أحوالهم من الفسق والعدالة وغيرهما… فإذا جاء: «لا تكرم الفساق من العلماء» كان دليلاً على خروج من علم بفسقه، فيكون من شك في ذلك منهم باقياً تحت العام.
وقد اُجيب عن ذلك: بأنّ الحكم في المطلق يختلف عنه في العام، ففي العام يجيء الحكم على كلّ أفراده، أمّا في المطلق فإنه يجيء على الطبيعة ولا نظر له إلى أفرادها، فلو شك في انطباق الحكم المطلق على فرد لم يجز التمسّك فيه بالإطلاق.
فقال الأُستاذ: هذا صحيحٌ، لأن حقيقة الإطلاق رفض القيود لا جمعها، لكنّ الفرق المذكور لا أثر له في النتيجة، فلا فرق ـ في الدلالة على خروج الحصّة ـ بين المخصّص والمقيِّد، فكما يخرج المخصص الفسّاق كذلك يخرج المقيِّد الرقبة الكافرة… فلو شك في التقييد الزائد كان كالشك في التخصيص الزائد، وكما يتمسّك بالعام في الفرد المشكوك في خروجه، يتمسّك بالمطلق في الحال المشكوك في خروجه.
بل الحق في الجواب أنْ يقال: إن الإطلاق الأحوالي فرعٌ للعموم الأفرادي، فما لم يحرز فرديّة الفرد للعام لم تصل النوبة إلى الأخذ بإطلاقه الأحوالي، وإذا سقط العموم الأفرادي بالنسبة إلى الفرد المشكوك في فرديّته، فلا يعقل بقاء الإطلاق الأحوالي فيه، لعدم الموضوع.
وهذا تمام الكلام في التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية إنْ كان المخصص لفظياً.
(1) أجود التقريرات 2 / 322.
(2) وسائل الشيعة 1 / 315، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، رقم: 1.
(3) مستدرك الوسائل 4 / 158، الباب 1 وجوب قراءة الفاتحة، رقم: 5.
(4) كفاية الاصول: 221.
(5) نهاية الاصول: 294.