تحرير محلّ البحث
إن هنا كبرى مسلّم بها، هي عبارة عن أنّ الأمر والنهي ـ على اختلاف الأقوال في حقيقتهما، من البعث والزجر، أو اعتبار اللابدّية والحرمان ـ ينشآن من الإرادة والكراهيّة، على مذهب العدليّة والأشاعرة معاً، ومن المصلحة والمفسدة على مذهب العدليّة، فبلحاظ مبدء الحكم ـ وهو الإرادة والكراهيّة ـ يمتنع تعلّق الحكمين ـ الوجوب والحرمة ـ من الحاكم الواحد في الزمان الواحد بالشيء الواحد… على جميع المسالك، لأنّ طلب الشيء يستلزم عدم الكراهيّة له، والنهي عنه يستلزم عدم الإرادة له، فكان تعلّقهما بالشيء الواحد مستلزماً لاجتماع النقيضين، وكذا الحال بالنظر إلى مسلك العدليّة من تبعيّة الحكم للمصلحة أو المفسدة، فإنّ اجتماعهما في الشيء الواحد محال.
وعلى الجملة، فإنّ القول بالجواز يستلزم المحذور في ناحية منشأ الحكم ومبدئه وهو الحبّ للشيء والبغض له، أو المصلحة والمفسدة فيه، وكذا في ناحية المنتهى، وهو مقام الإمتثال، لأنّ الأمر يقتضي الانبعاث والنهي يقتضي الانزجار أو الترك… ولا يجتمعان.
هذا بناءً على إنكار التضادّ بين الأحكام الخمسة، كما عليه المحقق الإصفهاني. وأمّا على القول بوجود التضادّ بينها كما عليه صاحب (الكفاية)، فإن الإستحالة لازمة في نفس الحكمين أيضاً.
فتلخّص: إنه من الناحية الكبرويّة، يستحيل أصل التكليف بمثل ذلك، بالنظر إلى المبدء والمنتهى كما تقدّم، ويلزم الجمع المحال بين التكليفين. وأمّا بالنظر إلى خصوص مبنى المحقق الخراساني من التضادّ بين الأحكام فالاستحالة تكون بالذات. وعلى كلّ حال، فإن التكليف كذلك محال، وليس من التكليف بالمحال، لأنّ مورد التكليف بالمحال هو ما إذا كان هناك تكليف واحد تعلّق بشيء واحد كالمجموع بين الضدّين، فلا ينبغي الخلط بين الموردين.
وعلى هذا، فإنّ النزاع في المسألة صغروي، لأنه يدور حول لزوم الاجتماع وعدم لزومه، بعد الوفاق على الكبرى كما تقدّم، ومرجعه إلى أنّه هل يسري ويتعدّى الأمر من الصّلاة إلى الغصب، والنهي من الغصب إلى الصّلاة أو لا؟
وقد أوضح الميرزا(1) رحمه اللّه أنّ هذا البحث يكون تارةً من صغريات باب التعارض، وأُخرى من صغريات باب التزاحم، وذلك لأنّه في صورة تعدّي الحكم عن موضوعه إلى موضوع الحكم الآخر، يلزم الاجتماع ويقع التنافي بين مدلولي الدليلين بحسب مقام الجعل، إذ الصّلاة إمّا واجبة وإمّا محرّمة، فأحد الدليلين على خلاف الواقع، وهذا هو التعارض. وأمّا في صورة عدم التعدّي، فلا اجتماع ولا مشكلة في مقام الجعل، بل لكلٍّ من الحكمين مركبه ولا ربط له بالآخر، وإنّما يقع التنافي في مقام الإمتثال، وهذا هو التزاحم، إذ لا قدرة على امتثال كلا التكليفين.
وهنا تفصيل، وذلك: لأنه تارة توجد المندوحة، أيْ يتمكّن المكلّف من الصّلاة في غير المكان المغصوب، وأُخرى لا توجد، فعلى التقدير الأول، إن قلنا بأنّ اعتبار القدرة على الامتثال في الخطاب هو بحكم العقل كما عليه المحقق الثاني، خرج المورد عن التزاحم أيضاً، لأنّه لمّا كان قادراً على الصّلاة في غير هذا المكان، صحّ تعلّق التكليف بها على نحو الإطلاق، إذ القدرة على الطبيعة حاصلة بالقدرة على الفرد وهي الصّلاة في غير الغصب، فلو صلّى في المكان المغصوب والحال هذه، وقعت صحيحة، غير أنه فعل المعصية بالتصرّف في ملك الغير. وإن قلنا بأن اعتبار القدرة على الامتثال هو باقتضاء الخطاب ـ كما عليه المحقق النائيني ـ فالتكليف من بدء الأمر موجّهٌ نحو الحصّة المقدورة من الصّلاة، كان المورد من التزاحم، لدوران الأمر بين صرف القدرة فيها في المكان المغصوب، والخروج منه والإتيان بها في غيره، وحينئذ تطبّق قواعد التزاحم، وتلحظ المباني في الترتّب.
أمّا على التقدير الثاني ـ أعني عدم المندوحة ـ فالمورد من التزاحم، سواء قلنا بكون القدرة معتبرةً باقتضاء الخطاب أو بحكم العقل.
(1) أجود التقريرات 2 / 126.