بيان القول بدلالته بالوضع
خلافاً للمشهور القائلين بأن أداة العموم موضوعة لإسراء الموضوع وانطباقه على جميع الأفراد والأقسام بلا حاجة إلى المقدّمات، وعليه، فقد قال صاحب (الكفاية): أمّا في المتصل، فإن أداة العموم مثل «كلّ» موضوعة لاستيعاب جميع الأفراد والأقسام من المدخول، فهي مستعملة في معناها ولا مجازيّة. وكذلك «العالم» و«العادل» كما في المثال المتقدّم.
وأمّا في المنفصل، فأداة العموم وإنْ استعملت لجميع الأقسام والأفراد، لكن التخصيص يكشف عن عدم إرادة ذلك المدلول، فتقع شبهة استعمال اللّفظ وإرادة المعنى غير الموضوع له، فأجاب عن ذلك بالتفكيك بين الإرادتين الاستعمالية والجديّة والتصرف في الظهور والحجيّة، قال:
وبالجملة، الفرق بين المتصل والمنفصل وإنْ كان بعدم انعقاد الظهور في الأول إلاّ في الخصوص، وفي الثاني إلاّ في العموم، إلاّ أنه لا وجه لتوهّم استعماله مجازاً في واحد منهما أصلاً، وإنما اللاّزم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الأول وعدم حجيّة ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجةً فيه في الثاني.
وبيان المطلب هو: إن الدلالة إمّا تصوّرية ـ وبتعبير (الكفاية): اُنسية ـ أو تصديقية استعمالية، أو تصديقية جديّة. والمراد من الاولى هو مجيء المعنى من اللفظ إلى الذهن على أثر الأنس الموجود بين اللّفظ والمعنى، وهذه الدلالة غير تابعة لا للإرادة ولا للقصد ولا للاستعمال، ولا هي تقع موضوعاً لحكم من الأحكام.
والثانية: هي أنّه لمّا يريد التكلّم أن يفهم السامع معنىً، فإنه يستعمل اللّفظ في ذاك المعنى، أي يستخدمه من أجل إفهام معناه الموضوع له، فيصدَّق بكونه مريداً لإفهامه وإحضاره إلى ذهن السامع باللفظ، فهي دلالة تصديقيّة استعمالية، وفيها يقع البحث عن كونها تابعةً للإرادة أو غير تابعة، وفي هذا المقام تنعقد الظهورات ويكون اللّفظ قالباً لإفهام المعنى… إلاّ إذا كان اللّفظ المستعمل مجملاً، فلا اقتضاء له لأنْ يكون قالباً للمعنى، أو احتمل وجود قرينة مانعة من دلالة اللفظ على المعنى، أو يُوجد ما يحتمل أن يكون قرينةً مانعةً… فلو وجد واحد من هذه الأسباب لم ينعقد الظهور للّفظ.
والثالثة: هي أنّه بعد تماميّة ظهور اللفظ في المعنى، يتحقّق الموضوع لأصالة المطابقة بين اللّفظ المستعمل ـ أي الكلام ـ والإرادة، وهذا أصل عقلائي، والمفروض كون التكلّم منهم فلا يتجاوزه، وحاصله: أنّ الكلام متى كان ظاهراً في معنىً، فإنّ ذاك المعنى هو المراد الجدّي للمتكلّم، ويعبّر عن ذلك بالحجيّة… لكنّ هذه الدلالة أيضاً لا تتمّ لو احتمل أن الإرادة الجديّة غير مطابقة لظهور اللّفظ، لكنّ المتكلّم غفل عن إقامة القرينة، أو احتمل وجود مانع ـ من تقيّة أو غيرها ـ عن إقامة القرينة على أن المراد غير ما يكون اللّفظ ظاهراً فيه، أو احتمل ذكره للقرينة منفصلةً عن الكلام… فإنّ كلّ واحد من هذه الإحتمالات يكفي لسقوط الدلالة الجديّة، فهي متوقفة على إندفاعها.
فقال المشهور ـ ومنهم صاحب (الكفاية) ـ بأنّ المخصّص المنفصل إنما يوجد الخلل في الدلالة التصديقية الجديّة دون التصديقية الاستعماليّة، إذ لا موجب للخلل فيها هنا، فلا وجه للزوم المجاز.
وعلى الجملة، فإن ظهور «كلّ عالم» في العموم منعقد، غير أن المخصص المنفصل يوجب أن يكون حجيّة ظهوره في خصوص غير الفسّاق، وأنّ الخصوص هو المراد الجدّي.
فإنْ قلت: إذا لم تكن الإرادة الجدّية على وفق الاستعمالية، لكون الكلام ظاهراً في العموم الشامل للفساق أيضاً، فلماذا جاء باللفظ الظاهر فيه؟
أجاب في (الكفاية): بأنّ مرجع هذا الإشكال إلى لزوم اللّغوية، ولكن يكفي لاندفاعه مجرّد احتمال وجود الحكمة من ذلك الإستعمال، وهي القصد إلى وضع قاعدة مفادها مانعيّة المخصّص المنفصل عن حجيّة ظهور العام، لكونه نصّاً أو أظهر منه فيتقدّم عليه، وتكون هذه القاعدة هي المرجع كلّما شكّ في دخول الشيء تحت العام. فكان الداعي للإتيان باللّفظ الظاهر في العموم هو ضرب هذه القاعدة لا البعث نحو إكرام كلّ العلماء حتى الفسّاق منهم.
Menu