المقام الثاني (في مقتضى الأصل العملي)
فلو وصل الأمر إلى الأصل العملي فما هو مقتضاه؟
أمّا إذا كان الخاص مقدّماً ووصل الحال إلى الشك لعدم المرجّح، فالأصل هو الإستصحاب، لأنّا مع مجيء العام نشكّ في بقاء حكم الخاص، فنستصحب بقائه ويتقدّم على العام، والنتيجة التخصيص… ولا يخفى أنه مبني على جريان الإستصحاب في الأحكام الكليّة الالهيّة كما هو المختار.
وأمّا إذا تقدَّم العام، فتارةً: يكون حكم الخاص مناقضاً لحكم العام، كما لو قال يجب إكرام كلّ عالم، ثم قال: لا يجب إكرام العالم الفاسق. وأخرى: يكون ضدّاً له، كأن يقول: يجب إكرام كلّ عالم، ثم يقول: يحرم إكرام العالم الفاسق.
فإنْ كان نقيضاً له، حكم بالتخصيص بمقتضى استصحاب عدم وجوب إكرام العلماء الفسّاق أزلاً، لعدم وجوب إكرامهم قبل ورود العام، فلمّا ورد وجب إكرامهم إلى حين ورود الخاص، فإذا ورد الخاص بعده ودار الأمر بين النسخ والتخصيص، وشككنا في تبدّل حكم إكرام العلماء الفسّاق من عدم الوجوب إلى الوجوب، نستصحب عدم الوجوب الثابت أزلاً، وتكون النتيجة التخصيص.
وإنْ كان ضدّاً له، فإنْ كان التضادّ بالوجوب والحرمة، بأنْ يفيد العام وجوب إكرام العلماء، والخاص حرمة إكرام الفسّاق منهم، فلا مجرى لاستصحاب إكرام الفسّاق، لعدم الشك في عدم جواز إكرامهم، سواء كان الخاص المتأخّر ناسخاً أو مخصّصاً، كما لا يخفى. نعم، إن كان مخصّصاً فالحرمة من أوّل الأمر وإنْ كان ناسخاً فمن حين وروده.
وإنْ كان التضادّ لا بالوجوب والحرمة، كأنْ يفيد العام الوجوب أو الحرمة، ويفيد الخاص الكراهة أو الإستحباب، فذهب المحقق العراقي إلى إمكان جريان الإستصحاب (قال): لو كان مفاد العام هو وجوب الإكرام أو حرمته، وكان مفاد الخاص المتأخر استحباب الإكرام أو كراهته، أمكن دعوى جريان حكم التخصيص بمقتضى استصحاب عدم المنع السابق، حيث أنه بالأصل المزبور مع ضميمة رجحانه الفعلي أو المرجوحية الفعلية، أمكن إثبات الكراهة أو الإستحباب. فتأمّل(1).
وعلى الجملة، فإنّ العام إن كان ظاهراً في الوجوب، فبعد ورود الخاص بعده، نشكُّ في بقاء الوجوب ـ لأن الخاص إن كان ناسخاً فالعام دالّ على الوجوب وإن كان مخصّصاً فلا، بل الاستحباب ـ فيمكن استصحاب عدم الوجوب. وكذا الكلام فيما لو كان العام ظاهراً في الحرمة وكان مفاد الخاص هو الكراهة.
وفيه:
لكن الإشكال هو: إنّه بعد ورود الخاصّ لا شك في الإستحباب، سواء كان ناسخاً أو كان مخصصّاً، نعم، إن كان ناسخاً فمن الآن وإنْ كان مخصّصاً فمن الأوّل، ومع عدم الشكّ كيف يستصحب عدم الوجوب؟ ولعلّ هذا وجه الأمر بالتأمّل.
وقد يقصد هذا المحقّق بيان الحكم في الزمان الفاصل بين العام والدليل المتأخر، بأنه إنْ كان مخصّصاً كان إكرام الفاسق من العلماء في الزمان الفاصل مستحبّاً، وإن كان ناسخاً لحكم العام، دلّ العام على وجوب الإكرام في الزمان المزبور، فالرجحان على كلّ حال ثابت.
(1) نهاية الافكار (1 ـ 2) 553.