المقام الثاني (في المانع)
وقد استدلّ المانعون بوجوه لابدّ من إيرادها والنظر فيها:
الوجه الأول:
صحيحٌ أنّ عدم العرض ليس وصفاً للموضوع، لأنّ وجوده يحتاج إلى الموضوع، وأمّا عدمه فغير محتاج إليه، ولكنّ هناك خصوصية تقتضي أنْ يكون وصفاً، وتوضيح ذلك:
إنّ للشيء انقساماً بالنظر إلى أحواله وأوصافه، وانقساماً آخر بالنظر إلى مقارناته، فنسبة الجدار إلى البياض من قبيل الأول، ونسبته إلى وجود زيد وعدم وجوده من قبيل الثاني… والنسبة بين الشيء ومقارناته في رتبة متأخرة عنها بينه وأوصافه، لأن الوصف من شئون الشيء فهو يلحظ معه، كلحاظ العلم مع لحاظ زيد، وأمّا مقارنات الشيء فليست من شئونه كما لا يخفى.
وعليه، فإنّ القرشية لمّا كانت من أوصاف المرأة، فإن انقسامها إلى وجود القرشيّة وعدم وجودها فيها بنحو الوصفيّة مقدّم رتبةً على إنقسامها إليهما بنحو المقارنة، فالمرأة بالنسبة إلى غير القرشية بنحو التوصيف متقدّم رتبةً على المرأة بالنسبة إليها بنحو المقارنة… فإذا أخرج المولى القرشيّة من تحت عموم المرأة لم تبقَ المرأة مهملة بالنسبة إلى عدم القرشية ولا هي مطلقة، أمّا عدم الإطلاق فواضح. وأمّا عدم الإهمال، فلأن الحكيم الملتفت إلى انقسامات موضوع حكمه ليس بمهمل لها، فيكون «المرأة» وهي موضوع الحكم في العامّ مقيدةً بعدم القرشية، وقد تقدّم أنّ هذا التقيّد بنحو الوصف مقدَّم على عدمها بنحو المقارنة. وإذا كانت المرأة مقيّدةً بعدم القرشيّة بنحو الوصف، فلا فائدة لاستصحاب العدم الأزلي في عدم القرشية بنحو المقارنة. هذا ثبوتاً. وأمّا إثباتاً، فإنّ أخذ الأحوال بنحو المقارنات يحتاج إلى مؤنة زائدة، ومقتضى التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات هو أخذها بنحو الأوصاف.
وهذا ما أفاده الميرزا رحمه اللّه(1).
وما أفاده المحقق الإصفهاني في الجواب ـ من قبول تقدّم الانقسام بنحو الأوصاف على الانقسام بنحو المقارنات، لكنّ المتَّبع هو الدليل وكيفية الأخذ في لسانه ـ غير رافع للشبهة بعد تقريبنا لها بما عرفت، من أنّه لا مناص من أخذ الدليل للخصوصيّة بنحو الوصف، لأنّ تقسيم المرأة بنحو الوصف مقدّم كما اعترف، فإذا لحظ المرأة وهو ليس بمهمل ولا مطلق بل مقيِّد، فلا محالة يكون قد أخذ عدم القرشية معها بنحو القيد، ولا يبقى مجال لأنْ يأخذه بنحو المقارن في المرتبة المتأخرة مرةً اخرى.
فالحق أنّ الشبهة من حيث الكبرى تامة واردة.
لكنّ الجواب هو من حيث الصغرى، لأنّا قد ذكرنا أنه وإنْ كانت القرشية وصفاً كما هو واضح، لكنّ عدم القرشية ليس وصفاً بل هو مقارنٌ. فالشبهة مندفعة من هذه الجهة.
الوجه الثاني:
إن كلّ وصف متأخّر وجوداً عن الموصوف، لكون الموصوف في مرتبة العلّة للوصف والوصف قائم به قيام العرض بالمعروض. هذا من جهة. ومن جهة اخرى: فإنّ عدم الوصف ووجوده في مرتبة واحدة لأنهما متناقضان، وكلّ متناقضين ففي مرتبة واحدة.
والنتيجة: إن استصحاب عدم العرض والوصف قبل وجود الموضوع لما بعده أصل مثبت.
والجواب
أمّا المقدمة الأولى، فلا كلام فيها، كما هو واضح.
إنّما الكلام في المقدّمة الثّانية:
أمّا من حيث المبنى، فبإنكار لزوم كون النقيضين في مرتبة واحدة، لأنّ نقيض الشيء في كلّ وعاء رفعه في ذلك الوعاء، وهذه حقيقة التناقض، وليس هو عدم الشيء في المرتبة، إذ لا ضرورة لأنْ يكون الرفع في المرتبة بل المرتبة قيد المرفوع والمعدوم، فهو ما يكون في المرتبة لا الرفع، وعليه، فإنّ نقيض القرشية في المرتبة بعد وجود المرأة هو رفع القرشيّة، وليس هذا الرفع في المرتبة المتأخرة عن وجودها.
هذا هو الجواب الأوّل، لكنّه مبنائي، وتفصيل ذلك في بحث الترتب.
وأمّا من حيث البناء بعد تسليم ضرورة وحدة الرتبة بين النقيضين، فيجاب عمّا ذكر: بأنّ الاختلاف في المرتبة يجتمع مع التقدّم في الزمان، وذلك لأنّه ـ قبل أنْ توجد العلّة في الزّمان ـ كان الزمان ظرفاً لعدم العلّة والمعلول معاً، مع أنّ عدم المعلول متأخّر رتبةً عن وجود العلّة، فلا تلازم بين الاختلاف الرتبي والزماني، بل المتأخّر رتبةً قد يتقدّم زماناً.
وعلى الجملة: فإنّ أساس مبنى تأخّر عدم العرض رتبةً عن وجود المعروض هو: إن وجود العرض وعدمه في مرتبة واحدة، ووجود المعروض كالعلّة بالنسبة إلى وجود العرض لتخلّل الفاء بينهما، فيلزم أن يكون وجود العرض وعدمه متأخراً عن وجود المعروض، ولكنّ هذا كلّه لا يمنع من التقدّم زماناً، فإنّ ظرف عدم النار هو نفس ظرف عدم الحرارة أيضاً، مع أن بين النار والحرارة اختلافاً في المرتبة، للعلّية والمعلوليّة كما هو واضح.
وعليه، فإنّ عدم القرشية متقدّم زماناً على المرأة والقرشيّة ـ وإنْ كانت القرشية وعدمها في رتبة متأخرة عن المرأة ـ فيستصحب ذاك العدم المتقدّم زماناً إلى الزمان المتأخّر عن وجودها، وليس بالأصل المثبت.
وهذا هو الحقيق في الجواب على فرض تسليم المبنى.
الوجه الثالث:
إن استصحاب العدم الأزلي لا عرفيّة له، وأدلّة الاستصحاب منصرفة عنه، لأنّ المفروض تردّد المرأة الموجودة بين القرشية وعدمها، فيستصحب حالتها السابقة لإفادة عدم القرشية. لكنّ هذه المرأة لا «هذيّة» لها قبل وجودها، فكيف يجري في حالها استصحاب العدم؟ قاله جماعة منهم السيد البروجردي(2).
تحقيق المطلب:
إنّ الإنصراف لابدّ له من منشأ، والمنشأ إمّا ندرة وجود بعض حصص الماهية، كأنْ يقال بانصراف جئني بماء عن ماء زمزم في مدينة قم، وإمّا كثرة استعمال اللفظ في احدى الحصص دون الاخرى، وإمّا التشكيك في صدق المفهوم عرفاً، كإنصراف الحيوان عن الإنسان، فإن صدقه عليه خفي، وكإنصراف ما لا يؤكل لحمه عن الإنسان.
والمرأة إنْ لم يكن لها قبل الوجود «هاذيّة» فليس هناك قضية متيقّنة بل هي مشكوكة من أول الأمر، وعليه، فلا موضوع عقلاً للإستصحاب، لا أنّ أدلّة الإستصحاب كصحيحة زرارة(3) منصرفة، إذ الإنصراف إنما يكون حيث يوجد الموضوع والصّدق العرفي.
وعليه، فإنّ الإستدلال على بطلان الإستصحاب في هذا الوجه مختلف، فتارةً الدليل على المنع هو الحكم العقلي من جهة عدم الموضوع. واخرى هو الإنصراف من جهة عدم شمول أدلّة الإستصحاب لمثل المرأة هذه.
ولذا نقول: إنه إن كان وجه المنع هو: عدم الموضوع وانتفاء القضية المتيقّنة من جهة أنه لا ماهيّة للمرأة قبل وجودها، لكون الماهيّة منتزعة من الوجود، فلا هذيّة للمرأة المعيّنة قبل وجودها، فكيف يجري الاستصحاب؟
فالجواب: إنا نريد بعد وجود المرأة إثبات المرأة بلا قرشية، فنقول:
هذه المرأة المعيَّنة مسبوقة بالعدم ذاتاً وصفةً، وقد انتقض ذاك العدم بالنسبة إلى نفس المرأة إذ وجدت، فهل عدم قرشيّتها قد انتقض إلى القرشية أو لا؟ هذا مشكوك فيه، ويستصحب اليقين السابق.
وإنْ كان وجه المنع هو: عدم العرفية لهذا الاستصحاب فتكون أدلّته منصرفة عنه.
فنقول: لا وجه لهذا الإنصراف، لأنّ المرجع في تطبيق مفاهيم الألفاظ هو حكم العقل، وأمّا العرف فنرجع إليه في أصل المفهوم، فلما قال الشارع: لا تنقض اليقين بالشك، احتجنا إلى قضية متيقنة سابقة وقضية مشكوكة لاحقة، مع اتّحاد الموضوع في القضيّتين، والفقيه يطبّق النصّ على مورده حسب الأدلّة العقلية، وهو لا يتوقّف في التمسّك بهذا النص في مورد العدم الأزلي، فليس المرجع فيه هو العرف حتى يقال بعدم عرفيّة هذا الاستصحاب.
على أنه قد تقرّر في محلّه: أن المنشأ للإنصراف هو التشكيك في الصّدق، وهذا الملاك بالنسبة إلى العدم الأزلي غير موجود، فلو كان تشكيك في الصدق لزم عدم القول بالاستصحاب في الأحكام الشرعية، والحال أن المشهور يتمسّكون عند الشك في الحكم باستصحاب عدم الجعل كما يتمسّكون بالبراءة… وعلى أساس استصحاب العدم الأزلي ذهب بعضهم ـ كالسيد الخوئي ـ إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية إذ قال بأنّ عدم الجعل معارض باستصحاب بقاء المجعول….
وتلخص اندفاع هذا الوجه حلاًّ ونقضاً.
الوجه الرابع:
إنّ العدم في الأزل غير العدم بعد الوجود… ومن أجل هذه المغايرة يكون استصحاب العدم الأزلي من الأصل المثبت… مثلاً: عدم البياض على الجدار الذي كان قبل وجود الجدار يغاير عدمه بعد وجود الجدار… لأنّ العدم الأوّل كان مستنداً إلى عدم الموضوع، وإذْ لا موضوع فلا عرض، بخلاف العدم الثاني، فإنّ الموضوع ـ وهو الجدار ـ موجود وليس بأبيض.
وبعبارة اخرى: لا يعقل بقاء المعلول مع تغيّر العلّة، فإنْ علّة العدم قبل وجود الموضوع شيء، وعلّته بعد وجود الموضوع شيء آخر، وإذا تعدّدت العلّة وتغيّرت، فالمعلول كذلك، فكان المتيقّن السابق غير المشكوك فيه لاحقاً… فلا يجري الإستصحاب، وهذا التقريب أقوى من تقريب المثبتين.
والجواب:
هو: أنّه لا معنى لأنْ يكون عدم العلّة علةً لعدم المعلول، فلو قيل هكذا فهو مسامحة في التعبير، بل الحقيقة: أن منشأ عدم المعلول هو عدم العلّة لوجوده، فالشيء لا يوجد لعدم الموجد له لا لأنّ لعدمه علةً، فإسناد العليّة إلى العدم مسامحة.
هذا حلّ المطلب وبه يندفع الإشكال.
ولو تنزّلنا وسلّمنا التغاير بين العدمين ـ السابق واللاّحق لوجود الموضوع ـ فإنّ هذه المغايرة العقلية لا تضرّ بالتمسّك بأدلّة الإستصحاب، لأن المرجع في وحدة الموضوع في القضيّتين في باب الإستصحاب هو نظر العرف لا الدقّة العقليّة، والعرف لا يرى التغاير بين عدم البياض قبل وجود الجدار وبعد وجوده.
وعلى الجملة، فقد علم ممّا تقدّم: أنّ إستصحاب العدم الأزلي أساسه هو التركيب في الموضوع، فهو ـ بعد التخصيص ـ المرأة بانضمام عدم القرشيّة، والشرط بانضمام عدم المخالفة للكتاب والسنّة، والعالم بانضمام عدم الفسق… وهكذا… وفي الزمان اللاّحق، لمّا يشك في الموضوع بقاءً، يكون أحد الجزئين ثابتاً بالوجدان وهو وجود المرأة، أمّا الآخر فمشكوك في بقائه، فيجري الإستصحاب فيه… وسيأتي بقية الكلام في تطبيق البحث على مسألة الكرّ.
الوجه الخامس:
إنّ إستصحاب العدم الأزلي في بعض الحالات مثبت كما تقدّم. وهو في بعض الحالات محال وإنْ لم يكن بأصل مثبت… أمّا كونه أصلاً مثبتاً، فحيث يؤخذ عدم القرشية في طرف الموضوع بنحو العدول في المحمول، بأنْ يكون الموضوع «المرأة غير القرشية»، أو بنحو السالبة بانتفاء المحمول بأنْ يكون «المرأة التي ليس بقرشيّة». ففي هاتين الحالتين يكون الاستصحاب أصلاً مثبتاً… كما تقدّم.
لكنّ هناك حالةً ثالثةً وهي: أنْ تكون القضيّة بعد إخراج القرشيّة بالتخصيص بنحو السّالبة المحصّلة بأنْ يقال: «المرأة إذا لم تكن بقرشية»، فإنّ هذا الفرض محال، لأنّ السّالبة المحصّلة وإنْ كانت صادقةً حتى مع عدم الموضوع فلا يكون أصلاً مثبتاً، لكنّ لازم صدقها كذلك هو كون المعدوم محكوماً بحكم وجودي، وهذا محال….
والحاصل: إنّ للقائلين بجريان استصحاب العدم الأزلي أن يأخذوا القضية بنحو السّالبة المحصّلة، فراراً من الوقوع في الأصل المثبت، لكنّهم يقعون في إشكال آخر، وهو لزوم الحكم على المعدوم بحكم وجودي وهو محال، لأنّ «المرأة إذا لم تكن بقرشيّة» يجتمع مع وجود المرأة وعدم وجودها ـ فليس الأصل مثبتاً ـ لكنّ حمل «ترى الدم» على هذه المرأة، معناه جواز حمل الحكم الوجودي على المرأة المعدومة وهذا محال.
والجواب
وقد أجاب الأُستاذ عن هذا الإشكال المتعلّق بعلم المعقول بالنقض والحلّ.
أمّا نقضاً، فقد ذكر وجود قضايا شرعيّة وعقليّة بنحو السّلب المحصَّل والمحمول أمر وجودي، ففي القرآن الكريم في حكم من لم يجد الهدي: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّام)(4) حيث أن الموضوع عدم وجدان الهدي بنحو السلب المحصّل والحكم (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّام) أمر وجودي. وفي القضايا العقلية تقول: إذا لم تكن الشمس طالعةً تكون تحت الافق، فهذا سلب محصّل ـ مثل إذا لم تكن المرأة قرشية ـ وقد حمل عليه حكم وجودي وهو «تكون تحت الافق».
وأمّا حلاًّ، فقد قسّموا القضيّة إلى المعدولة والمحصّلة، والمحصّلة تأتي موجبةً وسالبةً، وإنما سمّيت محصّلةً لأنْ الموضوع والمحمول فيها فعليّان محصَّلان، إلاّ أنه قد ورد السَّلب في القضيّة على الربط(5). فإنْ كان العدم جزءً للموضوع كقولهم «اللاّمتناهي معقول» أو للمحمول مثل «الحوادث غير متناهية» أو لكليهما مثل «غير المتناهي غير موهوم» سمّيت القضية معدولة، فتارة معدولة الموضوع كالأول، واخرى معدولة المحمول كالثاني، وثالثة معدولة الطرفين كالثالث، وهي قضايا موجبة قد حمل فيها شيء على شيء، ولذا يعتبر فيها الثبوت إما ذهناً وإما خارجاً.
أمّا في السّالبة، فليس المعتَبر هو السلب عن الموضوع الموجود أو المعدوم، بل هو قابلية صدق القضية في مورد وجود الموضوع ومورد عدم وجوده، فلذا قالوا بصدق القضية السّالبة المحصّلة مع وجوده ومع عدمه، لا أنّه يعتبر في صدقها وجوده أو عدمه.
وعلى الجملة، فإنّ تقيّد موضوع القضيّة المشتملة على حكم وجودي بعدم الوصف بنحو السّالبة المحصّلة، لا ينافي وجود الموضوع، ولا يلزم ثبوت ذلك الحكم في حال عدم الموضوع حتى يشكل بلزوم حمل الوجودي على العدمي، لأنه لا مُلزم به، بل ما قام عليه البرهان هو عدم اشتراط وجود الموضوع في السّالبة المحصّلة، أمّا أن يكون لعدم الموضوع موضوعية في وجود الحكم، فلا برهان عليه. فالإشكال مندفع.
وإلى هنا انتهى الكلام على أدلّة استصحاب العدم الأزلي، وظهر أنّ القول بجريانه هو الحق.
(1) أجود التقريرات 2 / 330.
(2) نهاية الاصول: 302.
(3) وسائل الشيعة 1 / 245، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، رقم: 1.
(4) سورة البقرة: الآية 196.
(5) قال الأُستاذ: هذا رأي الخواجة وغيره، وعندنا أن السلب يرد على المحمول ولازم ذلك سلب الربط لا أنه يرد على الربط.