المقام الأول (في مقتضى الأدلّة)
وللمنفصل صور:
الصورة الاولى ما إذا كان العام سابقاً، وقد جاء الدليل الآخر قبل وقت العمل بالعام، فهنا قولان:
أحدهما: بطلان النسخ، لأنّ النسخ قبل حضور وقت العمل بالعام وفعليّة الحكم، يستلزم لغويّة جعل الحكم المنسوخ، فالنسخ قبل حضور وقت العمل باطل.
والثاني: الجواز، وبه قال المحققان النائيني والعراقي.
أمّا الميرزا(1)، ففصّل بين القضيّة الحقيقية والخارجيّة، فأجازه في الحقيقيّة ببيان أن قوام الحكم فيها هو بفرض وجود الموضوع والشرط لا بخارجيّته، والفرض كاف لتحقق الحكم، فهو موجود ويقبل النسخ.
وأمّا العراقي، فأفاد بأنّه إن كان حقيقة الحكم في القضايا الشرعيّة، هو الملازمة بين الموضوع والحكم ـ كما عليه المشهور ـ فالمجعول في (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً)(2) هو الملازمة بين الحج والإستطاعة ـ فإنّ رفع الملازمة قبل تحقّق ما يتوقّف عليه الحكم جائز، بناءً على رجوع الواجب المشروط إلى الواجب المعلَّق، بأنْ يكون الوجوب فعليّاً وظرف الإمتثال بعدُ، فيجوز النسخ لارتفاع الحكم بعد وجوده.
وإنْ كان حقيقة الحكم، هو الإرادة المبرزة ـ كما هو المختار عند المحقق العراقي ـ وأنّ الإرادة عندما تبرَز ينتزع منها الحكم أي الوجوب ـ كما أنّ الكراهة المبرزة ينتزع منها الحرمة ـ فالمفروض وجودها حتى مع عدم وجود الشرط لها المنوطة به.
فسواء قلنا بمسلك المشهور في حقيقة الحكم أو بمسلك المحقق العراقي، فإنّه من الجائز رفع حكم العام قبل وقت العمل به… فالنسخ جائز، لأنه بناءً على مسلك المشهور الملازمة موجودة وإنْ لم يتحقق طرفاها كما في (لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا)(3)، وبناءً على مسلكه، فالإرادة أو الكراهة موجودة كما هو الفرض.
فتلخّص: جواز النسخ عند الميرزا والعراقي في الصّورة المذكورة.
وعلى هذا، فلا يرد الإشكال(4) بلزوم اللغويّة في جعل العام، لأنّ الحكم إنْ كان الإرادة، فإنّها قبل وجود الموضوع وشرطه موجودة قهراً، فلا يتوجّه الإشكال بأن رفع الحكم لغو، نعم، يمكن الإشكال في كون حقيقة الحكم هو الإرادة، لكنه مبنائي.
لكنّ التحقيق هو عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل، سواء في القضية الحقيقيّة أو الخارجيّة، لأنّ الإنشاء فعل اختياري للمولى، هو لا يكون بلا داعي، فإنْ أنشأ الحكم بداعي البعث، فإن إنشائه في ظرف عدم إمكان الإنبعاث من الباعث الملتفت محال عقلاً، والمفروض هنا كذلك، لفرض عدم تحقق الموضوع والشرط له… فما ذكره المحقّقان مردود بهذا الوجه لا بإشكال لزوم اللغويّة… فالنسخ باطل ويتعيَّن التخصيص.
الصّورة الثانية ما إذا كان العام سابقاً ثم جاء الدليل الآخر بعد حضور وقت العمل.
وقد فصّل المحقق الخراساني ـ تبعاً للشيخ ـ بين ما كان صادراً لبيان الحكم الواقعي، فالمتأخر ناسخ لا مخصّص، لأنه يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. وما كان صادراً لا من أجل بيان ذلك بل هو حكم ظاهري يكون مرجعاً عند الشك، فالمتأخّر مخصّص له، لعدم لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
فهذا تفصيل الشيخ و(الكفاية)، وعليه العراقي والحائري والبروجردي.
إلاّ أنّ الكلام في قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنّه بنحو الإقتضاء أو العلّة التامّة… والظاهر أنه بنحو الإقتضاء، فقد يتأخّر البيان عن وقت الحاجة لمصلحة فينتفي القبح حينئذ… كما هو الحال في الكذب، فإنّ قبحه إقتضائي وليس علّةً تامّة له، بل قد يكون حسناً.
وإذا كان قبح التأخير اقتضائياً ارتفع المانع عن أن يكون الدليل المتأخّر مخصّصاً للعام فيما إذا كان لبيان الحكم الواقعي… في كلّ مورد احتمل كون التأخّر لمصلحة… لكن هذا بوحده لا يكفي لتعيّن التخصيص.
ولذا قالوا بتعيّن التخصيص من جهة أن نسبة الخاص إلى العام نسبة القرينة إلى ذيها، فالمتقضي لأنْ يكون الدليل الآتي بعد العام مخصّصاً له موجود، وقد عرفت انتفاء المانع ـ وهو لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ باحتمال وجود مصلحة للتأخير من تقيّة ونحوها….
إلاّ أن الأُستاذ تنظّر ـ في الدورة اللاّحقة ـ في قرينيّة الخاصّ للعامّ إن لم يكن متّصلاً، لأن العرف لا يرى المنفصل قرينةً، بل يجعله ناسخاً، ولا أقل من التوقّف، فهذا الوجه لا يجدي لتعيّن التخصيص.
وكذا ما ذهب إليه الميرزا من أنّ أصالة العموم في العام لا تتمّ إلاّ بتوفّر مقدّمات الحكمة في المتعلّق، ووجود الدليل بعده مانع من تماميّتها لاحتمال القرينيّة، فالنسخ متوقف على تمامية أصالة العموم في العام، وهذا أوّل الكلام، فيتعين التخصيص.
لأنّ توقّف أصالة العموم ـ كأصالة الإطلاق ـ على مقدّمات الحكمة، غير تام، بل إنّ ألفاظ العموم بذاتها تدلّ على الشمول والاستيعاب.
فالوجه الصحيح لتعيّن التخصيص هو ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني من أنّ كلام الأئمّة عليهم السلام واحد، فكأن ما صدر من الإمام الباقر وما صدر من الإمام الرضا ـ عليهما السلام ـ صادران في مجلس واحد… فإذا كان الأئمة بحكم الواحد وكلامهم بحكم الكلام الواحد، جرى في كلماتهم حكم المخصّص المتّصل… ويشهد بذلك ما ورد عنهم من جواز نسبة ما سمع من أحدهم إلى غيره(5).
الصورة الثالثة أنْ يرد الدليل الخاص ثم يرد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص. وفي هذه الصورة قالوا بتعيّن تخصيص الخاصّ للعام بلا إشكال، إمّا للزوم اللغويّة وإمّا لاستحالة البعث مع عدم إمكان الإنبعاث.
الصورة الرابعة أن يرد الخاص ثم العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، فهل يتخصّص العام بالدليل المتقدم عليه أو يكون ناسخاً لذاك الدليل؟ والثمرة واضحة، لأنّه بناءً على الأوّل لابدّ من العمل على طبق الخاص، وبناءً على الثاني يكون العمل على طبقه ثم على العام من حين وروده.
ذهب في (الكفاية) إلى تقدَّم التخصيص لكثرته في الشريعة حتى اشتهر أنه ما من عامٍّ إلاّ وقد خص، ولندرة النسخ قبل انقطاع الوحي وأمّا بعده فلا نسخ.
وأمّا ما ورد في الصحيح من أن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن، ولذا يؤخذ بالخبر الوارد عن الإمام المتأخر، وعليه مشى مثل الشيخ الصّدوق في الخبرين المتنافيين، مرجّحاً المتأخّر على المتقدم زماناً، فقد أوضح الأُستاذ: بأنّ معنى «النسخ» فيه يختلف عن النسخ الإصطلاحي، ولذا لم يجعل التأخّر من المرجّحات في باب التعادل والتراجيح. والتفصيل موكول إلى هناك.
وعلى كلّ حال، فإنّ دعوى (الكفاية) مستندة إلى ندرة النسخ في زمان الوحي وأنه بعد انقطاعه لا نسخ.
وقد أورد عليه الميرزا بوجهين(6):
الأول: إنه لما وقع الشك في أنّ حرمة إكرام الفاسق باقية إلى زمان ما بعد العامّ المتأخر عنه، أو أن الحكم المذكور ينقطع بمجيء العام، فإنّ مقتضى الإستصحاب بقاء حكم الخاص، وإنّما يحتاج إلى التمسّك بالإستصحاب لإبقاءه، لأنَّ استمرار الحكم في الزمان وإنْ كان من الامور المتفرّعة على الحكم، ولكنّ ذلك موقوف على وجوده، والمفروض دوران الأمر بين وجوده مخصّصاً للعام أو زواله بنسخ العام له، فكان الموجب للبقاء هو الأصل العملي، أي الإستصحاب. لكنّ هذا الإستصحاب محكوم بالدليل وهو أصالة العموم; فما ذهب إليه صاحب (الكفاية) من التخصيص مردود.
(1) أجود التقريرات 2 / 394 ـ 395.
(2) سورة آل عمران: الآية 97.
(3) سورة الأنبياء: الآية 22.
(4) أجود التقريرات 2 / 395. الهامش.
(5) كفاية الاصول: 237.
(6) أجود التقريرات 2 / 399.