الكلام في المستحبات
وهل يطرح بحث حمل المطلق على المقيَّد في المستحبات كذلك؟
مقتضى القاعدة هو الحمل إن كان المطلق بنحو صرف الوجود، بمناط القرينيّة وغيره من المباني المذكورة.
لكنَّ الفقهاء يحملون الأدلّة المقيَّدة في المستحبّات على الأفضلية. وقد ذكروا في توجيه ذلك وجوهاً:
الأول: إن الغالب في المستحبّات هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبيّة. قاله في (الكفاية) ثم أمر بالتأمّل(1).
ووجهه واضح، لأنّ غاية ما تفيده الغلبة هو الظن، لكنّ رفع اليد عن الظهور بمثل هذا الظن مشكل….
الثاني: إنه مقتضى قاعدة التسامح في أدلّة السنن في أدلّة المستحبّات، فلا ترفع اليد عن دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيَّد، بل يحمل على تأكّد استحبابه. قاله في (الكفاية).
إلاّ أنه أشكل عليه في (التعليقة) بقوله: لا يخفى أنه لو كان حمل المطلق على المقيد جمعاً عرفياً، كان قضيته عدم الاستحباب إلاّ للمقيّد، وحينئذ إنْ كان بلوغ الثواب صادقاً على المطلق، كان استحبابه تسامحيّاً وإلاّ فلا استحباب له أصلاً. كما لا وجه ـ بناءً على هذا الحمل وبلوغ الثواب ـ يؤكّد الاستحباب في المقيّد.
وقد اختار الأُستاذ هذا الجواب. مضافاً إلى أن المستفاد من أخبار (من بلغ)(2) هو الإرشاد إلى حكم العقل بأنّ الإتيان بالعمل بقصد الرجاء محقق لموضوع الانقياد، وكلّ من يكون منقاداً فهو مستحق للثواب عقلاً.
وأمّا جواب (المحاضرات)، من أنه بناءً على تماميّة قاعدة التسامح وفرض صدق البلوغ، فقد تعلّق الأمر بالمطلق وبالمقيَّد، وكلّ منهما مستحب، ولا وجه للحمل على الأفضليّة.
ففيه: إن المفروض كون المطلق بنحو صرف الوجود، فهو منطبق على المقيَّد، وحينئذ يحصل الاندكاك وهو المرتبة الأكيدة من الطلب.
الثالث: إن الدليل الدالّ على التقييد يتصوّر على أربعة وجوه:
(الأول) أن يكون ذا مفهوم، بمعنى أن يكون لسانه لسان القضيّة الشرطية، كما لو قال: صلاة الليل مستحبة وهي احدى عشرة ركعة، ثم قال: إن استحبابها في الإتيان بها بعد نصف الليل. ففي مثل ذلك، لا مناص من الحمل، نظراً إلى أن المقيّد ينفي الاستحباب في غير الوقت من جهة دلالته على المفهوم.
(الثاني) أن يكون المقيد مخالفاً للمطلق في الحكم، كما لو قال: الإقامة للصّلاة مستحبة، ثمّ نهى عن الإقامة في حال الجلوس. ففي مثل ذلك، لا مناص من الحمل كذلك، لكون النهي المذكور إرشاداً إلى المانعيّة.
(الثالث) أن يكون الأمر في المقيَّد متعلِّقاً بالتقييد لا القيد، كما لو دلّ الدليل على استحباب الإقامة للصّلاة، ثم ورد دليل آخر يأمر أنْ يكون الإقامة في حال القيام. وفي مثله لابدّ من الحمل أيضاً، لأن هذا الأمر إرشاد إلى شرطية القيام في الإقامة.
فظهر: وجوب الحمل في هذه الصور، وأن القول بعدم الحمل في المستحبّات لا أصل له.
(الرابع) أن يكون الأمر في المقيَّد متعلّقاً بالقيد بما هو، وهو الغالب في المستحبات، كما إذا قال: زر الحسين عليه السلام. وقال: زر الحسين عليه السلام في كلّ ليلة جمعة.
والظاهر أنه لا يحمل المطلق على المقيّد في هذا القسم، لأن ملاك الحمل ـ كما تقدم ـ هو التنافي بين الدليلين، وإنما يقع بينهما إن كانا إلزاميين… بل يحمل المقيَّد على تأكّد الاستحباب والأفضلية.
ذكره في (المحاضرات)، قال: وهو الجواب الصحيح(3).
(1) كفاية الاصول: 251.
(2) وسائل الشيعة 1 / 80، الباب 18.
(3) محاضرات في اصول الفقه 4 / 552.