الجهة الأولى (في الشبهة المفهومية)
إن المخصص تارةً متصل واخرى منفصل.
وعلى التقديرين، فقد يؤثّر إجمال المخصص في العام بحيث لا يمكن التمسّك به أصلاً، كما لو قال: أكرم العلماء إلاّ بعضهم، وقد لا يكون كذلك بل يبقى مقدار من موارد العام على الحجيّة مثل: أكرم العلماء إلاّ الفسّاق، فمع تردّد الفسق بين الكبيرة والصغيرة يبحث عن بقاء مرتكب الصغيرة تحته أو خروجه كمرتكب الكبيرة؟ ثم القسم الأخير يكون تارةً: مردداً بين الأقل والأكثر كمثال الفسق، واخرى: يكون مردداً بين المتباينين، كما لو قال: أكرم العلماء إلاّ زيداً، وتردّد زيد بين ابن عمرو وابن بكر.
ثم الإجمال منه حقيقي ومنه حكمي، لأنّ المخصّص إنْ أثّر في الإرادة الاستعمالية سقط اللفظ عن الظهور فكان الإجمال حقيقةً، وإنْ أثَّر في الإرادة الجديّة سقط الكلام عن الحجيّة فكان مجملاً من حيث الحكم والأثر مع بقاء الظهور على حاله… وهذا المطلب متفرّع على ما تقدّم من أنّ التخصيص بالمنفصل يوجب المجازيّة للعام أو لا، فعلى الأوّل فالإجمال حقيقي، وعلى الثاني حكمي; أمّا على مسلك الشيخ ـ من عدم سقوط العام عن الحجية حتى بناءً على المجازيّة ـ فلا إجمال أصلاً.
ويبقى بيان اصطلاح لهم في خصوص المخصص المتّصل وهو قولهم، إنه يعطي عنواناً للعام، فإنّ مرادهم من ذلك: إن المخصص المتّصل يؤثّر في انعقاد ظهور العام في غير ما دلّ عليه المخصص، فلمّا يقول: أكرم كلّ عالم عادل، ينعقد له ظهورٌ في كلّ عالم غير فاسق، أمّا إذا كان المخصص منفصلاً، فإنّ لا تكرم الفسّاق من العلماء يؤثر في أكرم كلّ عالم من حيث الحجيّة، ويتعنون المراد الجدّي بغير الخاص.
وعلى ما تقدّم نقول:
إن كان المخصص متّصلاً مردّداً بين المتباينين، كما لو قال: أكرم العلماء إلاّ زيداً، وتردّد بين ابن عمرو وابن بكر، فإنّ العام يصير مجملاً وتسقط الإرادة الاستعمالية، لأن المخصص المتّصل يمنع من انعقاد الظهور في العام، كما تقدّم، إذ الظّهور يأتي بالتدريج بحسب الدلالة التصورية، أمّا بحسب الدلالة التصديقيّة فلا ينعقد إلاّ بعد تمام الكلام، فكانت الإرادة الاستعمالية معلّقة على عدم القرينة المتصلة، فإذا كانت مجملةً فلا ينعقد الظهور أصلاً… وهذا الإجمال حقيقي، إذ لا ندري ماذا قال.
وإن كان المخصص متصلاً مردداً بين الأقل والأكثر، كمثال الفسق المزبور سابقاً فكذلك….
وتلخص: إن المخصص المتّصل المجمل مطلقاً يوجب الإجمال الحقيقي في العام.
وإنْ كان المخصص المجمل منفصلاً مردّداً بين المتباينين، فإنّ الخاص يؤثّر في الدلالة التصديقية الجديّة للعام، وهي مرتبة حجيّة الكلام، فتسقط الحجيّة بالنسبة إلى مورد الترديد، ويُعنون العام بغير الخاص من حيث الحجيّة، ويصبح العام مجملاً إجمالاً حكمياً… وبيان ذلك:
إن كلّ كلام يصدر من المتكلّم، فإنه ما دام متكلّماً فله أن يلحق بكلامه ما شاء، فإذا فرغ منه انعقد الظهور وكان حجةً يؤاخذ به، وحينئذ، لا يرفع اليد عن هذا الظهور ولا يسقط الكلام عن الحجيّة إلاّ بدليل، وقد تقرّر عندهم رفع اليد عن العامّ بالخاص، فيكون مسقطاً للعام عن الحجيّة وإن كان ـ أي الخاص ـ مردداً… إلاّ أنهم قد اختلفوا في وجه ذلك على قولين: فمنهم من قال: بأنّ الوجه هو أقوائية الخاص في الحجيّة من العام، فيقدّم الأقوى. ومنهم من قال: بأنّ حجيّة العام في العموم كانت معلَّقةً على عدم قيام قرينة معيّنة للمراد الجدّي منه، فحجيّة أصالة العموم بالنسبة إلى الإرادة الجدّية معلّقة على عدم المخصّص، والقرينة المعلَّق عليها مقدّمة دائماً على المعلَّق.
نعم، هنا بحث آخر، وهو أنه لمّا كان الخاص مردّداً بين المتباينين، فإنّ العام يسقط عن الحجية بالنسبة إلى طرفي الاستعمال، فلا يمكن التمسّك به لا لزيد بن عمرو ولا لزيد بن بكر، للعلم الإجمالي بسقوطه بالنسبة إلى أحدهما، ومقتضاه خروج كليهما من تحته حكماً، ولكنْ هل خروجهما عنه بسبب قصور أصالة العموم لهما اقتضاءً، أو أن العام يشملهما لكنّ العلم الإجمالي يوجب سقوط الاصول العمليّة بالنسبة إليهما على أثر المعارضة؟
وعلى كلّ حال، فإنه مع وجود العلم الإجمالي يسقط العام عن الحجيّة، ولا يمكن التمسّك بالإستصحاب لإبقاء وجوب إكرام هذا أو ذاك… للزوم المخالفة العملية للدليل المخصّص الناهي بالفرض عن إكرام زيد، فلابدّ ـ في فرض تردّده بين اثنين ـ من ترك إكرامهما معاً… وهذا ما عليه المشهور وإنْ مال المحقّق اليزدي(1) إلى جواز التمسّك بالإستصحاب في أحد الطّرفين وعدم سقوط. أصالة العموم عن الحجيّة إلاّ بقدر الضرورة، ولزوم المخالفة الاحتمالية غير مضرّ، فيكون الواجب إكرام أحد الزيدين والمكلّف مخيّر في إكرام أيّهما شاء….
ولعلّ السرّ فيما ذهب إليه المشهور هو: إن الحجّة في المقام عبارة عن أصالة العموم، ومن الواضح أن الحجيّة هي الكاشفيّة عن المراد الجدّي نوعاً عند العقلاء، ولذا كان مبنى الحجيّة والكاشفيّة عن الإرادة الجدّية بناء العقلاء ـ بخلاف الإرادة الإستعمالية، فإن الكاشفيّة فيها عن طريق الوضع ـ والأصل في هذا البناء هو التطابق بين الإرادتين، لكنّ هذه الكاشفية في العام ماداميّة، وبمجرّد وصول المخصّص المنفصل المردّد بين المتباينين تسقط الكاشفيّة بالنسبة إلى كلا الزيدين معاً ـ وإن كان أحدهما باقياً تحت العام واقعاً ـ لكونها معلّقة من أوّل الأمر على عدم مجيء ما يزاحمها، فإذا جاء المخصص سقط الكشف والحجة عن الإرادة الجديّة وأصبح الكلام مجملاً، فلا يجوز التمسّك بالعام، وإذا سقط عن الحجيّة جاء دور جريان الأصل العملي، وقد تقرّر سقوط الاصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي، إمّا لعدم المقتضي وإمّا للتعارض.
وتبقى شبهة السيّد البروجردي(2) من أن العامّ بالنسبة إلى الأحد المردّد حجّة.
لكنْ يدفعها: أن الأحد المردّد لا ماهيّة له ولا وجود، فيستحيل أن يكون موضوعاً للحجيّة… وكأنه قد أخذ ذلك من صاحب (الكفاية) في حجيّة أدلّة اعتبار خبر الثقة بالنسبة إلى أحد الخبرين المتعارضين… لكن صاحب (الكفاية) أيضاً يقول في المقام بإجمال العام.
وإن كان المخصّص المجمل المنفصل مردّداً بين الأقل والأكثر كما في مثال أكرم كلّ عالم ثم قوله: لا تكرم الفساق من العلماء، وتردّد الفسق، فقد ذكروا أنّه لا يسري الإجمال من المخصّص إلى العام، فلا يكون مجملاً لا حقيقةً ولا حكماً، بل القدر المتيقن ـ وهو مرتكب الكبيرة ـ يخرج ويبقى الزائد عنه وهو مرتكب الصغيرة تحت العام. وتوضيح المقام هو أنه:
تارةً: نقول بأنْ شمول العام للانقسامات يتمّ بالوضع لا بمقدّمات الحكمة، واخرى: نقول باحتياجه إلى إجراء المقدّمات في مدخول «كل». وعلى الثاني ـ فإنّه لمّا كان عدم القرينة من المقدّمات ـ فهل يلزم عدم مجيء القرينة إلى الأبد أو يكفي عدمها في مجلس التخاطب؟ قولان.
فإنْ قلنا: بأن الشمول يحتاج إلى المقدّمات وأنّ انعقاد الإطلاق موقوف على عدم القرينة إلى الأبد، ففي المسألة إشكال، لأنّ الخاصّ المجمل قرينة، وانعقاد الإطلاق يتوقف على عدمها إلى الأبد كما هو الفرض، فمقتضى القاعدة إجمال العام.
وإنْ قلنا ـ كما هو الصحيح ـ بأنّه يتوقف على عدمها في مجلس التخاطب، فإنه إذا فقد تمّ الظهور الإطلاقي، ويكون المخصّص مزاحماً لحجيّة المطلق لا ظهوره، فلو تردّد بين الأقل والأكثر ـ كما هو الفرض ـ زاحمه في القدر المتيقن، وأمّا الزائد عنه، فشموله له مشكوك فيه ـ ولا يقاس بصورة المتباينين، لوجود العلم الإجمالي هناك ـ وهو شك بدوي، أمّا العام فشامل له ظهوراً وحجيةً، فكان الواجب إكرام مرتكب الصغيرة تمسّكاً بالعام.
وإنْ قلنا: إن شمول العام بالوضع، فالمخصص المجمل المردّد بين الأقل والأكثر غير مزاحم لظهور دلالته الوضعيّة… كما هو واضح.
وهذا هو الوجه الأول للتمسّك بالعام في هذه الصّورة.
الوجه الثاني: لا ريب أن الأصل اللّفظي أقوى من الأصل العملي ـ لأنّ اللّفظ يكشف عن المراد الجدّي وهو حجة على الواقع، وليس للأصل العملي جهة الكشف بل هو معذّر ومنجّز فحسب، وأيضاً، فإنْ الأصل العملي قد أخذ في موضوعه الشكّ، بخلاف الأصل اللّفظي فإنه يرفض الشك ويرفعه ـ ولا ريب أيضاً في جريان الأصل العملي وهو الاستصحاب في مرتكب الصغيرة عند تردّد المخصّص بين الأقل والأكثر، فيكون الأصل اللّفظي جارياً فيه بالأولويّة لما تقدم.
(1) درر الفوائد (1 ـ 2) 216 ـ 217.
(2) نهاية الاصول: 292.