الأمر الثالث (هذا البحث من مسائل أيّ علم من العلوم؟)
واختلفت كلماتهم في أنّ هذا البحث من المسائل أو المبادئ، ومن مسائل أيّ علم؟
قال في الكفاية(1): إنه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا تقع في طريق الإستنباط، كانت المسألة من المسائل الاصولية، لا من مبادئها الأحكاميّة ولا التصديقية، ولا من المسائل الكلاميّة، ولا من المسائل الفرعيّة، وإنْ كانت فيها جهاتها….
نعم، يمكن تصوير الجهة الفقهيّة، لأن العمل العبادي إن كان متعلَّقاً للنهي فهو باطل وإلاّ فهو صحيح، والصحّة والفساد من الأحكام الفقهية. كما يمكن تصوير الجهة الكلاميّة، بأنْ يبحث فيها عن جواز تكليف اللّه سبحانه وتعالى بعمل اجتمع فيه جهة الأمر وجهة للنهي وعدم جوازه. وتصوير جهة اخرى تجعلها من المبادئ الأحكاميّة، لأنّه إذا تعلَّق الأمر والنهي بواحد يقع البحث عن وجود التلازم بينهما في المورد وعدم وجوده، لأنّ المبادي الأحكامية هي لوازم الأحكام وعوارضها وخصوصيّاتها….
لكنّ المحقق الخراساني يرى أن المسألة من علم الأصول لانطباق تعريف المسألة الاصولية عليها… خلافاً للشيخ، حيث جعلها من المبادئ الأحكامية، كما أن الميرزا خالفه، فجعلها من المبادئ التصديقيّة للمسألة الاصوليّة.
ولكنَّ ذلك كلّه يتوقّف على تغيير عنوان البحث، حتى يمكن تحقق هذه الجهة أو تلك فيه، أمّا مع عنوانه كما في (الكفاية) وغيرها من كتب الأعلام، فلا يصح البحث لأنْ يكون من مسائل هذا العلم أو ذاك، بل هو من مسائل علم الاصول.
فالحق ما ذهب إليه وإن كان كلامه مخدوشاً كما ذكرنا، خلافاً للشيخ الأعظم(2)، حيث جعلها من المبادئ الأحكاميّة، لأنّا لا نبحث في هذه المسألة عن خواص الأمر والنهي، وعن أنه هل يوجد بينهما التضادّ أو لا ليكون من المبادي، وإنما نبحث عن أنّ اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد ذي العنوانين هل ينتهي إلى اجتماع الضدّين أو لا؟
وللميرزا(3) القائل بأنها من المبادئ التصديقية للمسألة الاصوليّة، وذلك لأنّ المبدء التصديقي هو كلّ ما أوجب التصديق بثبوت المحمول للموضوع، مثلاً: عندما نقول: هل خبر الثقة حجة أو لا؟ فإنّ ما يعرّف «خبر الثقة» و«الحجيّة» يسمّى بـ«المبدء التصوري»(4) وما يدلّ على ثبوت «الحجية» لـ«خبر الثقة» يسمى بـ«المبدء التصديقي». ونحن في هذه المسألة نقول: هل يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي فيما إذا تعلَّقا بالواحد ذي العنوانين أو لا؟ وهذا مبدء تصديقي لتحقق موضوع المسألة الاصولية، وأمّا المبدء التصديقي للمسألة الاصولية فهو الأدلّة على الترجيح أو التخيير بناءً على التعارض.
(1) كفاية الاصول: 152.
(2) مطارح الأنظار: 125.
(3) أجود التقريرات 2 / 128.
(4) كفاية الاصول: 152.