الأمر الثالث (في تداخل الأسباب و المسبّبات)
إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء وعلمنا بدليل خارجي أو من نفس ظهور القضيّتين، أن كلّ واحد من الشروط مستقلّ في ترتّب الجزاء عليه، فهل مقتضى القاعدة تداخل الشرطين أو الشروط في تأثير أثر واحد أو لا؟
مثلاً: إذا اجتمع سببان أو أكثر للغُسل كمسّ الميّت والحيض والجنابة، فهل تقتضي كلّها غُسلاً واحداً أو أن كلاًّ منها يقتضي غسلاً فيتعدّد؟ وعلى تقدير الاقتضاء للتعدّد، فهل مقتضى القاعدة هو التداخل بأنْ يكفي الغُسل الواحد أو لا؟
هذا، ولا يخفى أن هذا البحث يطرح، سواء على القول بالتضادّ بين الأحكام بأنفسها فلا يجتمع الحكمان في مورد، أو القول بأنها اعتبارات ولا مانع من اجتماع الاعتبارين في مورد. أمّا على الأوّل فواضح، فإنّه يلزم اجتماع المثلين في المثال وهو محال، وأمّا على الثاني، فإنّه لا ريب في أن الحكم الوجوبي بالغسل إنما هو بداعي تحريك المكلّف نحو الفعل، لكنّ المادة الواحدة ـ وهي الغُسل ـ لا تقبل الانبعاثين في مقام الامتثال… فيعود الإشكال.
وقد ذكروا قبل الورود في البحث اموراً:
الأول: إن مورد هذا البحث حيث لا دليل من الخارج على التداخل أو عدمه، وإلاّ فالمتّبع هو الدليل، كما هو الحال في بابي الوضوء والغسل، فالنصوص أفادت هناك إجزاء الوضوء أو الغسل الواحد مع تعدّد الأسباب.
الثاني: إن محلّ الكلام هو الشرط القابل للتعدّد والتكرار كالوضوء والغسل، أمّا ما لا يقبله فهو خارج، كما لو ورد دليل في أن من أفطر في شهر رمضان فعليه كذا، فإنّ الإفطار ـ وهو نقض الصوم ـ يتحقق بالفعل الموجب له، فإذا انتقض لا ينتقض ثانياً.
الثالث: إن محلّ الكلام ما إذا كان الجزاء قابلاً للتعدّد، لا مثل القتل، فلو ارتكب اموراً يستحق القتل على كلّ واحد منها، فإنه لا يقبل التعدّد والتكرّر، وإنْ كان هناك أحكامٌ مترتّبة… وكذلك في المعاملات، فقد يتحقّق للخيار في معاملة واحدة أسباب عديدة من الغبن والحيوان والعيب، لكن الفسخ شيء واحد، وإنْ كان هناك أحكام اخرى مترتبة.
الرابع: في مقتضى الأصل… وأنه إذا تعدّدت الأسباب هل ترجع إلى سبب واحد وتتداخل أو لا؟ وإذا تعدّدت المسبّبات، هل ترجع إلى واحد وتتداخل أو لا؟
أمّا المسببات، فمقتضى القاعدة الاشتغال وعدم التداخل، وذلك (أولاً) مقتضى إطلاق الدليل، فإنّ إطلاق أي شرط وجزاء يقتضي الامتثال سواء امتثل بفرد آخر أو لا؟ فلو قال الدليل: إنْ فعلت كذا فكفّر بكذا، وجبت عليه الكفارة سواء أعطاها بسبب آخر أو لا. (وثانياً) هو مقتضى الاستصحاب، فإنه لو كفَّر لسبب وشك في كفايتها عن الكفارة لسبب آخر، يستصحب وجوبها عليه بذاك السبب. (وثالثاً): إنه مقتضى قاعدة: الإشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.
وأمّا الأسباب، فمقتضى الأصل هو التداخل وعدم التعدّد، فإذا تعدّد السبّب وشك في إيجابها للآثار المتعدّدة، كما في الوضوء مثلاً، فإنّ الشك يرجع إلى دوران الأمر بين الأقل والأكثر، لكنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ من جهة كون الأقل متيقّناً، أما الزائد فمشكوك فيه، فيستصحب عدم تعلّق الجعل الشرعي به، وهذا هو الأصل الأول الحاكم في المقام.
ثم تصل النوبة إلى الأصل المحكوم وهو البراءة الشرعية، ثم تجري البراءة العقلية.
فمقتضى الأصل في طرف الأسباب هو التداخل، وفي طرف المسبّبات هو عدم التداخل.
الخامس: في ما نسب إلى فخر المحقّقين من أنّ القول بالتداخل وعدمه يبتنيان على كون العلل الشرعية أسباباً أو معرّفات. فعلى الأول لا تتداخل وعلى الثاني فلا مانع من التداخل لجواز اجتماع أكثر من معرّف على الشيء الواحد.
وقد أورد عليه في (الكفاية)(1) وغيرها بما حاصله: إن الأحكام الشرعيّة معتبرات، وهي في الأصل وفي الخصوصيات من الإلزام والترخيص وغير ذلك تابعة لإرادة الشارع، وهي السبب لها، فالقول بأنّ الأحكام الشرعيّة أسبابٌ والبحث عن كونها مؤثرة أو لا، غير صحيح، بل إنّ كلّ ما عبّر عنه بالسبب الشرعي فإنّه موضوع وليس بمؤثّر ولا معرّف، فالزوال مثلاً له الموضوعية الشرعيّة لوجوب صلاة الظهر لا أنه مؤثر… كما أن الحكم بوجوب صلاة الظهر يدور مدار الزوال لا أنه معرّف للحكم… وعلى ما ذكر، فإن مقتضى القاعدة هو عدم التداخل.
وبعد الفراغ من الامور فاعلم: أن في المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: التداخل. والثاني: عدم التداخل. والثالث: التفصيل بين ما إذا اختلف السبب ذاتاً كمسّ الميّت والجنابة فلا تداخل، وما إذا اتّحد السبب كتكرّر الجنابة مثلاً، فالتداخل وهو مختار ابن إدريس.
(1) كفاية الاصول: 205.