إشكال و دفع
إلاّ أنه قد وقع الكلام بينهم في أنّ الإطلاق واللاّبشرطيّة والسّريان، بعد أنْ كان خارجاً عن المعنى الموضوع له اللّفظ، هل هو ذاتيٌّ للمعنى، بأنْ يكون لماهيّة الرقبة ـ مثلاً ـ سريان ذاتي في أفرادها، كالتعجّب بالنسبة إلى الإنسان، فإنّ لفظ الإنسان موضوع للحيوان الناطق، وليس التعجّب داخلاً في المعنى، إلاّ أنه لازم ذاتي له، أو أنْ ذلك محتاجٌ إلى اللّحاظ، بأنْ تلحظ ماهية الرّقبة بنحو اللاّبشرط؟
قال جماعةٌ بالأوّل، وقد أقام الإيرواني(1) البرهان عليه بما حاصله: أنّ وضع اللّفظ للمعنى حكمٌ من قبل الواضع، ومن الواضح أنّ الحاكم لا يحكم بثبوت المحمول لموضوع مهمل، لأنّ كلّ قضيّة مهملة فهي في قوّة الجزئية، فلا يكون اللّفظ موضوعاً للماهيّة المجرّدة ذاتها عن الإطلاق، وإلاّ لزم في كلّ مورد يستعمل فيه اللّفظ أنْ يكون الاستعمال بلا وضع، وهذا باطل… فالوضع للماهيّة المهملة غير ممكن.
(قال): وهذا أشدّ ما يرد على القائلين بخروج الإطلاق عن حريم المعنى.
وقد أجاب الأُستاذ عن هذا البرهان:
بأنّ ذاتيّة الإطلاق بالنسبة إلى الماهيّة لا تخلو، إمّا أن تكون من ذاتيّ باب الكليّات الخمس، أو من ذاتيّ باب البرهان، ولا ثالث.
أمّا كونه من الأوّل فباطلٌ، لأن ذاتيّ باب الكليّات الخمس هو الجنس والفصل والنوع، والإطلاق للماهيّة التي هي موضوعٌ للقضيّة ليس الجهة الجنسيّة للماهيّة ولا الفصليّة لها، كما لا يعقل كونه مركّباً من جهتي الجنس والفصل.
فلابدّ من أن يكون ذاتي باب البرهان، كالإمكان في الممكنات، فإنّه ينتزع من ذات الماهيّة الممكنة استواء الوجود والعدم فيقال: هذا ممكنٌ، في قبال الماهيّة الآبية عن الوجود أي الممتنع الذاتي، والآبية عن العدم أي الواجب بالذات.
فنقول: إن كان الإطلاق ذاتيّاً من باب البرهان، بأنْ يكون الإطلاق منتزعاً من حاق ذات الماهية بلا حيثيّة، فإنّ دلالة الرقبة على الإطلاق من هذا الباب باطل بالضرورة.
فظهر أنّ الإطلاق ليس ذاتيَّ الماهية مطلقاً.
هذا أوّلاً.
وثانياً: إنه لا كلام في التقابل بين الإطلاق والتقييد وعدم إمكان اجتماعهما، فلو كان الإطلاق ذاتيّ الماهيّة كان التقييد محالاً وإلاّ يلزم اجتماع المتقابلين، بأنْ تكون الرقبة مع كونها لا بشرط عن الإيمان والكفر مقيَّدةً بالإيمان، وهذا غير معقول.
فإن قيل:
المراد من ذاتية الإطلاق هو: إن الماهيّة بحسب ذاتها ـ أي لو خلّيت وطبعها ـ تقتضي الإطلاق، والتقييد بمثابة المانع، فكلّما لم يوجد المقيّد كانت الماهيّة مطلقة، فهي مطلقة لولا التقييد.
قلنا:
لا خلاف في التقابل بين الإطلاق والتقييد، فقيل: إنه من قبيل العدم والملكة، وقيل: من قبيل التضاد، وقيل: من قبيل التناقض، وما ذكر مردود على جميع التقادير، لأنّ عدم كلّ مانع شرط لوجود الممنوع، فلو كان التقييد مانعاً عن مقتضى ذات الماهية ـ وهو الإطلاق كما ذكر ـ لزم أنْ يكون عدم أحد الضدّين مقدمةً لوجود الضدّ الآخر، وهو باطل. هذا بناءً على كون التقابل من قبيل التضاد أو التناقض. وعلى القول بأنه من قبيل العدم والملكة، يلزم مقدميّة الشيء لنفسه، لأنّ المفروض كون التقييد ملكة والإطلاق عدمها، فلو كان التقييد مانعاً عن الإطلاق كان عدمه مقدمةً للإطلاق، لكنّ الإطلاق هو عدم التقييد.
فظهر أنّ الحق هو القول الثاني، وهو كون الإطلاق لحاظيّاً، بمعنى أنَّ الحاكم لمّا لحظ ماهيّة الرقبة وخصوصية الإيمان، فإنْ أخذ الخصوصية فيها كان التقييد وإنْ لم يأخذها كان الإطلاق، فالإطلاق عدم أخذ الخصوصية، والتقييد هو أخذها، فكان الإطلاق والتقييد أمران زائدان على الماهية عارضان عليها، غير أنّه في مقام الإثبات يتمُّ التقييد ببيان القيد والإطلاق بعدم بيانه….
وأمّا ما ذكره الإيرواني من لزوم الإهمال. ففيه: إن المحال هو أنْ يضع الواضع ويكون المعنى الموضوع له مهملاً، وأمّا قبل الوضع فهو مطلقٌ، لكنّ كون هذا الإطلاق ذاتيّاً للماهية ـ لا باللّحاظ ـ فأوّل الكلام.
وهذا تمام الكلام في (اسم الجنس) الذي هو الموضوع غالباً في باب الإطلاق والتقييد.
(1) نهاية النهاية: 307 ـ 308.