إشكال المحقق الإصفهاني على المقدمة الاولى
وقد أشكل عليه المحقق الإصفهاني فقال(1): إن حديث تضادّ الأحكام التكليفية وإنْ كان مشهوراً لكنّه ممّا لا أصل له، لما تقرّر في محلّه من أن التضادّ والتماثل من أوصاف الأحوال الخارجية للامور العينيّة، وليس الحكم بالإضافة إلى متعلّقه كذلك، سواء اُريد به البعث والزجر الاعتباريّان العقلائيّان أو الإرادة والكراهة النفسيّان.
ثم أوضح ما ذكره على المسلكين المذكورين في حقيقة الأمر والنهي.
ومحصّل كلامه هو: إنّ حقيقة التضادّ عبارة عن التمانع بين الشيئين الموجودين المتعاقبين على الموضوع الواحد، الواقعين تحت جنس قريب وبينهما غاية الاختلاف، كالسواد والبياض المتعاقبين على المحلّ الواحد، فإنّهما أمران وجوديان يجتمعان تحت مقولة الكيف المحسوس لكنْ بينهما الاختلاف في الغاية.
وعلى هذا، فالتضادّ من أوصاف الموجودات الخارجية، وهي التي يتصوّر فيها التضادُّ، دون الأحكام التكليفية:
أمّا على القول: بأن الأمر والنهي هما البعث والزجر الاعتباريّان، فلأنّ البعث والزجر عبارة عن المعنى الاعتباري المنتزع من قول المولى «صلّ» وقوله «لا تغصب»، ومن الواضح أن كلاًّ منهما إنشاء خاص مركّب من كيف مسموع ـ وهو لفظ «صلّ» ولفظ «لا تغصب»، ومن كيف نفساني هو قصد ثبوت المعنى باللفظ، وهما قائمان بالمولى المنشئ لا بالفعل الخارجي القائم بالغير، والأمر الاعتباري المنتزع أيضاً قائم به لا بغيره، ومقوّم هذا الأمر الاعتباري ـ وهو طرفه ـ لا يعقل أنْ يكون الهوية العينية القائمة بالمكلَّف، لأن البعث الحقيقي يوجد سواء وجدت الهويّة العينيّة من المكلَّف أو لا، ويستحيل أن يتقوَّم الموجود ويتشخّص بالمعدوم بل ما لا يوجد أصلاً كما في البعث إلى العصاة، وحينئذ يكون المتعلَّق المقوِّم لهذا الأمر الاعتباري والمشخّص له هو الفعل بوجوده العنواني الفرضي الموافق لاُفق الأمر الاعتباري والمسانخ له (قال): فاتضح ممّا ذكرنا: أن البعث والزجر ليسا من الأحوال الخارجية، بل من الامور الاعتبارية، وأن متعلَّقهما ليس من الموجودات العينية بل العنوانية.
وأمّا على القول: بأنّ الحكم عبارة عن الإرادة في الوجوب والكراهة في الحرمة، فقد ذكر وجوهاً لعدم التضادّ، لأن الإرادة والكراهة ـ سواء التكوينية أو التشريعية ـ قائمتان بالنفس، لكنهما من الامور ذات التعلّق، والمتعلّق لهما عين وجود الإرادة والكراهة، وعليه: فإنّ متعلَّقهما هو الوجود النفساني للمراد والمكروه، لا الوجود الخارجي، وإلاّ يلزم وجودهما بلا طرف، وحينئذ، يكون متعلَّق الإرادة وطرفها موجوداً بوجود الإرادة، وكذا الكراهة، ولمّا كانت الإرادة غير الكراهة وبينهما تغاير، فكذلك بين المتعلَّقين لهما، فلا يجتمعان في واحد، فلا تضاد، وهذا هو الوجه الأوّل.
الوجه الثاني: إن الإرادة أمر نفساني ـ وكذلك الكراهة ـ ولا يعقل تعلّقها بالموجود الخارجي وإلاّ يلزم انقلاب النفساني خارجيّاً والخارجي نفسانياً، نعم، الإرادة علّة لتحقّق الشيء في الخارج، وهذا غير أنْ يكون الخارج متعلّقاً لها، فلا ينبغي الخلط.
الوجه الثالث: إن طبيعة الشوق ـ بما هو شوق ـ لا تتعلَّق إلاّ بالحاصل من وجه والمفقود من وجه، إذ الحاصل من جميع الجهات لا جهة فقدان له كي يشتاق إليه النفس، والمفقود من جميع الوجوه لا ثبوت له بوجه كي يتعلَّق به الشوق، فلابدَّ من حصوله بوجوده العنواني الفرضي ليتقوم به الشوق، ولابدّ من فقدانه بحسب وجوده التحقيقي كي يكون للنفس توقان إلى إخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعلية… وحاصل هذا: أن الموجود الخارجي يستحيل أن يكون هو المتعلَّق للإرادة والكراهة، لكونه موجوداً من جميع الجهات.
وهذه الوجوه جارية في الإرادة التكوينية والتشريعية معاً، غير أنّ التكوينية لا واسطة فيها بخلاف التشريعية، إذ المراد صدور الفعل من المكلَّف، والتكوينية لا تتعلَّق بالمعدوم كما تقدَّم، بخلاف التشريعية، فإنّها تتعلَّق بالفعل الذي يراد صدوره من المكلف.
(1) نهاية الدراية 2 / 308.