أورد عليه الأُستاذ
أوّلاً: إنّ الخاص ـ سواء كان ظهوره وضعيّاً أو إطلاقيّاً ـ مقدّم على العام ـ وإنْ وقع الكلام في وجه تقدّمه أنّه من باب الأظهرية أو القرينيّة ـ فإنْ كانا في كلام واحد سقط ظهور العام وإن كانا في كلامين سقط حجيّة العام… وهذا ممّا لا خلاف فيه. وعليه، فمفهوم «إذا بلغ…» مقدّم على «خلق اللّه الماء طهوراً» والظهور في كليهما إطلاقي، لكن المفهوم خاصٌ، فهو مقدّم لكونه قرينة. وإنْ كان ظهوره وضعيّاً فتقدّمه يكون بالأولوية، فلماذا جعل الخبرين مثالاً لهذا البحث؟
وثانياً: إن ما ذكره من عدم استقرار الظهور فيما لو كانت الدلالة فيهما معاً بالوضع أو بالإطلاق أو كانا متّصلين، غير صحيح، لأنه في حال كون ظهورهما وضعيّاً، فإنّ الثاني يمنع من انعقاد الظهور في الأول، لكنّ الثاني لا ينعقد له ظهور أصلاً، لكونه مسبوقاً بالأول، فالقول بعدم استقرار الظهور إنما يتمّ في حال كونهما بالوضع وفي الثاني منهما خاصّةً. أمّا إذا كان ظهورهما بالإطلاق فلا ينعقد في أحدهما أصلاً ولا يصحّ التعبير بعدم الاستقرار، لوضوح صلاحية كلٍّ منهما لأن يكون بياناً للآخر، فلا تتم مقدّمات الحكمة في شيء منهما.
وثالثاً: إنّ الكلام في أصل كون الظهور الوضعي بياناً، فيمتنع انعقاد الإطلاق في الطرف الآخر، وهذا ما ذكره المحقق العراقي هنا، والمحقق الخراساني في بحث التعارض من (الكفاية)(1) فيما لو وقع العام والمطلق في كلام واحد… والأصل فيه هو الشيخ الأعظم قدس سره، من جهة أنّ الظهور الوضعي تنجيزي والإطلاقي تعليقي ولا يكون بينهما التمانع بل الأول يتقدّم. وبعبارة اخرى: الظهور الوضعي ذو اقتضاء بخلاف الإطلاقي، وما لا اقتضاء له يستحيل أن يعارض الاقتضاء.
(قال) ولنا في ذلك نظر نقضاً وحلاًّ.
أمّا نقضاً، فقد ذكروا أنّ العام لو حفّ بمجمل سرى الإجمال إليه وسقط عن الظهور، كما لو قال: أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم، وتردد الفسق بين الكبيرة والصغيرة… فكيف أثّر ما لا اقتضاء له فيما له الاقتضاء؟
وأمّا حلاًّ، فإنْ كلّ ظهور وضعي فهو معلَّق على أنْ لا يكون محفوفاً بقرينة أو بما يصلح للقرينية أو بمجمل، وهذا هو السرُّ في سراية الإجمال في المثال المتقدّم، لأنّ المجمل ـ وإنْ كان لا إقتضاء ـ يصلح لإسقاط الظهور الوضعي، ولذا لو احتفّ العام بمطلق لا ينعقد للكلام ظهور، والدليل على ما ذكرناه هو السيرة العقلائية، لأن حجيّة هذه الظهورات مستندة إليها، وفي موارد الاحتفاف كما ذكرنا لا تنعقد على الظهور بل هم يتوقّفون في مثل ما لو قال المولى: أكرم كلّ عالم ولا تكرم الفساق، حيث النسبة العموم من وجه، فهم في العالم الفاسق ـ المجمع بين العام الوضعي والإطلاقي ـ يتوقّفون ويعاملون الكلام معاملة المجمل.
فالتحقيق أنه في مورد احتفاف العموم بالمطلق، لابدّ من القول بالإجمال، خلافاً للشيخ وصاحب (الكفاية) والعراقي وغيرهم.
وعلى ما ذكر، فالتحقيق هو إعمال قواعد التعارض في جميع موارد التعارض بين العموم والمفهوم، إلاّ إذا كان للمفهوم حكومة على العموم كما في مفهوم آية النبأ(2)، فإنّه ليس العمل بخبر العادل من السفاهة والجهالة، فخبره خارج عن الحكم بالتبيّن تخصّصاً، ولذا نصّ صاحب (الكفاية) في بحث التعارض(3)على أنْ لا تعارض بين الحاكم والمحكوم… وإلاّ إذا لزمت لغويّة العام لو تقدّم المفهوم عليه، كما لو قدم مفهوم «إذا بلغ الماء…» على عموم «الماء الجاري لا ينفعل بالملاقاة» فإنه يلزم لغوية أخذ «الجاري» في العموم… ولذا يتقدّم العموم على المفهوم في مثله….
وأمّا مقتضى القاعدة بصورة عامّة، فهو القول بالإجمال في المتّصلين وإعمال قواعد التعارض في المنفصلين، فبناءً على القول بالترجيح ـ لا التخيير ـ فالمرجّحات وإلاّ فالتساقط والأصل العملي.
(1) كفاية الاصول: 450.
(2) سورة الحجرات: الآية 6.
(3) كفاية الاصول : 437.