نظريّة السيّد الاستاذ
لكن السيّد الاستاذ بعد أنْ ذكر آراء الأعلام قال:
هذا محصل الإيرادات على تعلق التكليف بالفرد المردّد وهي في الحقيقة ثلاثة، إذ الأول يرجع إلى الثالث كما لا يخفى.
وشيء منها لا ينهض مانعاً عن تعلّق التكليف بالفرد المردد، ولأجل ذلك يمكننا أن ندّعي أن متعلّق الوجوب التخييري هو أحد الأمرين على سبيل البدل، في الوقت الذي لا ننكر فيه أن الفرد المردد لا واقع له، وأن كلّ موجود في الخارج معيّن لا مردّد.
وبتعبير آخر نقول: إن المدّعى كون متعلّق الحكم مفهوم الفرد على البدل، أو فقل هذا أو ذاك، بمعنى أن كلاً من الأمرين يكون مورد الحكم الواحد، لكن بنحو البدل في قبال أحدهما المعين، وكلاهما معاً بنحو المجموع.
ووضوح ذلك يتوقف على ذكر مقدمتين:
الأُولى: إن مفهوم الفرد على البدل أو الفرد المردد الذي يعبّر عنه بالتعبير العرفي بـ: « هذا أو ذاك » من المفاهيم المتعينة في أنفسها، فإن المردّد مردّد بالحمل الأُوّلي لكنه معيّن بالحمل الشائع، نظير مفهوم الجزئي الذي هو جزئي بالحمل الأولي كلّي بالحمل الشائع، فالفرد على البدل مفهوم متعين، ولذا نستطيع التعبير عنه والحكم عليه وتصوّره في الذهن كمفهوم من المفاهيم، فهو على هذا قابل لتعلّق الصفات الحقيقيّة والاعتبارية به كغيره من المفاهيم المتعينة.
الثانية: إن الصفات النفسيّة كالعلم ونحوه لا تتعلّق بالخيارات، بل لابدّ وأن يكون معروضها في أُفق النفس دون الخارج، وإلا لزم انقلاب الخارج ذهناً أو الذهن خارجاً وهو خلف، فمتعلق العلم ونحوه ليس إلا المفاهيم الذهنية لا الوجودات الخارجية.
وإذا تمت هاتان المقدّمتان، تعرف صحّة ما ندّعيه من كون متعلّق العلم الإجمالي في مورده والملكية في صورة بيع الصاع من صبرة والبعث في الواجب التخييري هو الفرد على البدل ومفهوم هذا أو ذاك، فإنه مفهوم متعين في نفسه كسائر المفاهيم المتعينة، ولا يلزم منه انقلاب المعين مردداً، إذ المتعلق له تعين وتقرر، كما لا يلزم كون الصفة بلا مقوّم، إذ المفهوم المذكور له واقع.
يبقى شيء، وهو: إن الصفات المذكورة وانْ تعلقت بالمفاهيم، لكنها مرتبطة بالواقع الخارجي بنحو ارتباط ومأخوذة مرآتاً للواقع، والمفروض أنه لا واقع لمفهوم الفرد المردد، فكيف يتعلق به العلم ؟! وحلّ هذا الإشكال سهل، فإن ارتباط المفهوم المعلوم بالذات بالواقع الخارجي ليس ارتباطاً حقيقياً واقعياً، ويشهد له أنه قد لا يكون العلم مطابقاً للواقع، فكيف يتحقق الربط بين المفهوم والخارج ؟ إذ لا وجود له كي يكون طرف الربط، ولأجل ذلك يعبّر عن الخارج بالمعلوم بالعرض. إذن، فارتباطه بنحو ارتباط لا يستدعي أن يكون له وجود خارجي كي يشكل على ذلك بعدم الواقع الخارجي لمفهوم الفرد المردد.
ومما يؤيّد ما ذكرناه من امكان طرّو الصفات على الفرد المردد: مورد الإخبار بأحد الأمرين، كمجيء زيد أو مجيء عمرو، فإنه من الواضح أنه خبرٌ واحدٌ عن المردد، ولذا لو لم يأت كلّ منهما لا يقال إنه كذب كذبتين، مع أنه لو رجع إلى الإخبار التعليقي لزم ذلك ولا تخريج لصحة الإخبار إلا بذلك.
يبقى إشكال صاحب الكفاية وهو: إن التكليف لتحريك الإرادة، والإرادة ترتبط بالخارج ارتباطاً تكوينياً، فيمتنع التكليف بالمردّد، إذ لا واقع له كي يكون متعلق الإرادة(1).
والجواب عنه: إنّه لا ملزم لأن نقول بأن التكليف لأجل التحريك والبعث والدعوة نحو متعلّقه بجميع خصوصيّاته وقيوده، بل غاية ما هو ثابت إن التكليف لأجل التحريك نحو ما لا يتحرك العبد نحوه من دون التكليف المزبور بحيث تكون جهة التحريك وسببه هو التكليف المعين وإن اختلف عن متعلّقه بالخصوصيّات.
ومن الواضح: أن تعلق التكليف بالفرد المردد يستلزم الحركة نحو كلّ من الفعلين على سبيل البدل، فيأتي العبد بأحدهما منبعثاً عن التكليف المزبور، وهذا يكفي في صحة التكليف وكونه عملاً صادراً من حكيم عاقل.
ونتيجة ما تقدم: إنه لا مانع من تعلّق التكليف بالفرد على البدل وبأحدهما لا بعينه، بمعنى كون كلّ منهما متعلقاً للتكليف الواحد، ولكن على البدل لا أحدهما المردد ولا كلاهما معاً. وبذلك يتعين الالتزام به فيما نحن فيه لفرض ثبوت الغرض في كل من الفعلين على حدّ سواء و من دون مرجح، فلابدّ من كون الواجب في كلّ منهما بنحو البدلية والتردد.
وهذا المعنى لا محيص عنه في كثير من الموارد، ولا وجه للالتزام ببعض الوجوه في العلم الإجمالي، كدعوى أن المتعلّق هو الجامع والترديد في الخصوصيات. وفي مسألة بيع صاع من صبرة، كدعوى أن المبيع هو الكلّي في الذمة ولكن مع بعض القيود، أو دعوى اخرى لا ترجع إلى محصل. وتحقيق الكلام في كلّ منهما موكول إلى محلّه.
فالمختار على هذا في الواجب التخييري كون الواجب أحدهما لا بعينه، كما التزم به المحقق النائيني، وإن خالفناه في طريقة إثباته »(2).
أقول:
أمّا ما ذكر في المقدمة الأُولى من أن « الفرد على البدل مفهوم متعيّن، ولذا نستطيع التعبير عنه والحكم عليه وتصوّره في الذهن كمفهوم من المفاهيم » فهذا صحيح، ولكن التفريع عليه بقوله: « فهو ـ على هذا ـ قابلٌ لتعلّق الصّفات الحقيقيّة والاعتباريّة به كغيره من المفاهيم المتعيّنة » فيه:
أوّلاً: كيف تتعلّق الصفات الاعتباريّة من البعث والتحريك ونحوهما بالوجود الذهني ما لم يكنْ له مطابق في الخارج ؟
وثانياً: كيف يكون المردد متعيّناً كغيره من المفاهيم المتعيّنة ؟ إن أراد المتعيّن خارجاً، فإن كلّ ما في الخارج معيّن غير مردد، وإنْ أراد التعيّن ذهناً، فالمفروض أنه مردد غير معيّن.
وأمّا ما ذكر في المقدّمة الثانية من صحّة تعلّق العلم ونحوه بالمردد، فقد تقدّم أنه رأي صاحب الكفاية، وما أجاب به من أنّ الارتباط بين المفهوم والمتعلّق الخارجي ليس ارتباطاً واقعيّاً غريب، فإنّ الإرتباط بين الشّيئين إمّا واقعي وإمّا اعتباري، وهل الارتباط بين الصورة الذهنية ومطابقها الخارجي اعتباري لا واقعي ؟
والاستشهاد لذلك بأنّه « قد لا يكون العلم مطابقاً للواقع » أعجب، فإنه يتضمّن الاعتراف بلزوم وجود المطابَق ولزوم المطابقة بينهما، وأمّا عدم المطابقة أحياناً فمن الخطأ في التطبيق، وأين هذا عن المدّعى حتى يستشهد به ؟ وكذلك الاستشهاد بتعبيرهم عن الخارج بالمعلوم بالعرض، فإنّ هذا التعبير يفيد خلاف المدّعى كما لا يخفى.
وتأييد ذلك بالإخبار عن أحد الأمرين، واضح الضعف، للفرق بين الإخبار، والعلم والبعث والتكليف، على أن المخبر عنه هو « الأحد » الجامع بين الفردين لا الفرد المردد، وهذا هو المرتكز العقلائي.
(1) كفاية الأُصول: 141.
(2) منتقى الأُصول 2 / 492 ـ 495.