نظريّة السيد البروجردي
وأمّا السيّد البروجردي، فقد قدّم على بيان ما ذهب إليه(1) مقدّمات، ذكر في الأولى المراد من الحصّة والطبيعة والفرد فقال: بأن المراد من الحصّة تارةً: هو الطبيعة المضافة كقولنا: الانسان الأبيض، وأُخرى: الماهيّة المتشخّصة بالوجود، أي الإنسانية الموجودة بوجود زيد حصّة من الإنسان، وكذا في عمرو وغيره، فلهم في الحصّة اطلاقان في قبال الطبيعة بقطع النظر عن الإضافة، كقولك الانسان نوع، الصادق على الخارج من زيد وعمرو… فيقال: زيد إنسان، وذلك لأنهم وجدوا في الأفراد ـ كقولنا زيد موجود ـ حيثيّتين، حيثيّة الوجوديّة، وهي تشمل عمراً وبكراً والسماء والأرض أيضاً، وحيثيّة خصوصيّة في زيد، فهو زيد ومع الإنسانية التي يشاركه فيها عمرو وبكر، فالطبيعة لها وجود في القضيّة الذهنيّة ـ وهي قولنا: الإنسان نوع ـ يشترك فيها زيد وعمرو وبكر من حيث الوجود كما يشتركون من حيث الانسانية… وهذه هي الطبيعة.
( قال ) والماهيّة التي هي عبارة عن الطبيعة موجودة في الخارج، ولا يصح القول بعدم وجودها، غير أنّ للوجود إضافتين، احداهما: إلى الفرد، والأُخرى: إلى الطبيعة، فهو يضاف أوّلاً وبالذات إلى الماهيّة المتشخّصة التي هي حصّة من الطبيعة، ثم إلى الطبيعة في الرتبة الثانية، فبناءً على أصالة الوجود يكون المتحقق بالذات في الخارج هو الوجود، إلاّ أنه ليس بغير حدّ، بل الحدّ أيضاً موجود حقيقةً، فالوجود موجود بالذات والإنسانيّة الموجودة في زيد حدّ لهذا الوجود، وكذلك الوجود في عمرو… وذلك الحدّ هو الماهيّة الشخصيّة أي الإنسانية الموجودة بوجود زيد المركّبة من جنس هو « حيوان » وفصل هو « ناطق ». وهكذا في غيره… لكن الإنسانية الموجودة بوجود زيد غير الموجودة بوجود عمرو… وهكذا، كما أنّ وجود كلّ منهم يغاير وجود الآخر… إلاّ أن الإنسانيّة ـ الحيوانيّة الناطقية ـ موجودة ووجودها يكون أوّلاً وبالذات، ويكون وجود الإنسان: زيد وعمرو… ثانياً وبالعرض، أي بتبع وجود الإنسانيّة، وهذا معنى قولهم: « الحق أن الطبيعي موجود بوجود فرده ».
فظهر المراد من الحصّة والطبيعة والفرد، وخلاصة ذلك أن:
الحصّة عبارة عن الإنسانية الموجودة بوجود خاص:
والطبيعة عبارة عن الجهة المشتركة بين الإنسانيّات الموجودة، ووجود هذه الجهة يكون بوجود الأفراد، كنسبة الآباء إلى الأبناء.
والفرد قد يطلق ويراد منه الوجود، بناءً على أصالة الوجود، إذ الوجود متفرّد بذاته وهو عين الفردية، وقد يطلق ويراد منه الماهيّة، وهو الفرد بالعَرَض. وقد ذكروا أن الماهيّة على قسمين: ما يقبل الصّدق على كثيرين وهو الطبيعة غير المتحصّصة، وما لا يقبله وهو الماهيّة المتحصّصة أي المتشخّصة. فالإنسانية تصدق على كثيرين، أمّا إنسانية زيد فلا، كما أن الوجود كذلك، فلا يقبل الصّدق على كثيرين لأنه سالبة بانتفاء الموضوع، بخلاف الماهيّة المتشخّصة، فهي في ذاتها تقبل الصّدق على كثيرين، لكنّها بإضافتها إلى الوجود سقطت عن القابليّة لذلك، فكان عدم القابليّة للصّدق على كثيرين فيها بالعرض، كما كان في الوجود بالذات.
المقدمة الثانية: تارةً: نجعل الموضوع في القضيّة مفهوم الوجود كأن نقول: « مفهوم الوجود من أعرف الأشياء »، أي: إنه بديهي التصوّر، وهذا من أحكام مفهوم الوجود، ـ لا من أحكام واقع الوجود، لاستحالة تصوّر واقع الوجود حتى يحكم عليه بحكم ـ بأن يجرّد المفهوم من الوجود ويتصوّر وحده في الذهن، ثم يحكم عليه.
وأُخرى: نجعل الموضوع واقع الوجود ؟ كأن نقول: « كنه الوجود في غاية الخفاء ». لكن إذا كان واقعه غير قابل للتصوّر، فكيف يجعل موضوعاً ويحكم عليه بحكم من الأحكام ؟
إن غاية ما قيل في الجواب هو: إن مفهوم الوجود، إن لوحظ بلحاظ ما فيه ينظر، كان موضوعاً لأحكام نفس المفهوم، وإن لوحظ بلحاظ ما به ينظر، كان موضوعاً لأحكام واقع الوجود، وفي قولنا: « كنه الوجود في غاية الخفاء » جعلنا مفهوم الوجود بما فيه ينظر بالنسبة إلى واقع الوجود.
فقال: بأن متعلّق الطلب هو مفهوم وجود الطبيعة، لكن بلحاظه مرآةً لوجود الطبيعة، خلافاً لصاحب الكفاية، إذ قال بأن المتعلّق هو وجود الطبيعة.
المقدمة الثالثة: إن متعلّق الطلب لابدّ وأن يكون فيه جهة وجدان وجهة فقدان، وأمّا الفاقد من جميع الجهات فلا يصلح لأن يتعلّق به الطلب، لأنه معدوم والمعدوم لا يتقوّم وجود الطلب به، وكذا لو كان واجداً من جميع الجهات، فإن طلب ما كان كذلك طلب للحاصل وهو محال.
وبعد المقدمات: إن متعلّق الطلب والإرادة هو الوجود الفرضي للموجود التحقيقي الخارجي، فإنّه في عالم الفرض يفرض وجود شيء فيتعلّق الإرادة والطلب والشوق به لأن يوجد خارجاً، فالمتعلّق هو ما في يفرض أنه موجود في الخارج… وكذلك الحال في جميع الإرادات التكوينيّة، إذ المتعلّق لها هو الموجود بالحمل الشائع لكن بالوجود الفرضي، ووزان الإرادة التشريعيّة وزان الإرادة التكوينيّة، فيكون المتعلّق لها هو الوجود التحقيقي الموجود بالوجود الفرضي… وأمارات المشخّصات خارجة عن دائرة المتعلّق… وعلى هذا، يكون تطبيق المكلّف للمتعلّق على الأفراد بنحو التخيير… لأنه ليس المتعلّق إلا وجود الطبيعة بالوجود الفرضي بتعبير المحقق الإصفهاني، وبتعبير السيد البروجردي: مفهوم وجود الطبيعة الفاني بوجود الطبيعة، فيكون التطبيق بيد المكلّف، وهذا تخيير عقلي، بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الطلب بالأفراد والماهيّة الشخصيّة، فإن التخيير يكون شرعيّاً. فظهر ما في كلام المحاضرات من جعل التخيير عقليّاً على كلّ تقدير.
(1) نهاية الأُصول: 217.