مقدّمة في بيان المراد من ألفاظ العنوان
إنّ عنوان البحث هو: الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا ؟
في هذا العنوان ألفاظ، فما المراد منها:
( الأمر ) ليس المراد به مادّة الأمر ولا صيغته، بل المراد هو الطلب المبرز، بأيّ مبرز لفظي أو فعلي كالتحريك عملاً، أو الإشارة باليد وغيرها….
فهذا هو المراد، لأنّه إنْ أريد خصوص مادّة الأمر أو صيغته، كان البحث لفظيّاً، وتكون دلالة الأمر على النهي لفظيّة، مطابقية أو تضمّنيّة أو التزاميّة، ولكنّ البحث أعم، ويدخل فيه الدلالة العقليّة أيضاً، فيكون المراد من الأمر هو الأعمّ من الطلب اللّفظي وغيره.
و( الإقتضاء ) لفظي تارةً وعقلي أُخرى، والعقلي ينشأ تارةً: من مقدميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر، وأُخرى: من الملازمة بين وجود أحدهما وعدم الآخر… والاقتضاء اللفظي هو الدلالة اللفظيّة بأقسامها الثلاثة.
والمراد من الاقتضاء هو الأعمّ من اللفظي والعقلي بأقسامهما.
وسيأتي توضيحٌ لهذا قريباً.
و( النهي ) ما يقابل الأمر، فإذا كان المراد من الأمر هو الطلب المبرز الأعمّ من اللفظي وغيره، فكذلك النّهي يكون أعم، سواء كان حقيقته طلب الترك أو الزجر عن الفعل.
و( الضد ) اصطلاحان، فلسفي وأُصولي، أمّا في الفلسفة، فالمراد منه الأمران الوجوديان اللذان لا يقبلان الاجتماع، فبينهما تقابل التضاد. توضيحه: كلّ شيئين إن اشتركا في النوع القريب فهما متماثلان، وإلاّ فإنْ لم يكونا آبيين عن الاجتماع في الوجود فهما متخالفان، وإنْ أبيا فهما متقابلان، فإنْ كانا وجوديين فهما ضدّان، وإنْ كان أحدهما وجوديّاً والآخر عدميّاً فهما متناقضان. والحاصل: إنْ كان المتقابلان وجوديين ولا تلازم بينهما في التصوّر، فهما ضدّان فلسفةً.
وأمّا في الاصطلاح الأُصولي، فلا يشترط أن يكونا وجوديين، ولذا يقسّم الضدّ إلى الخاص والعام وهو عبارة عن الترك.
فالمراد من « الضد » هنا هو المصطلح الأُصولي كما عرفت.
بقي أن نوضّح المراد من « الاقتضاء » بالنظر إلى المراد من « الضد »:
وذلك لأنّ ما تقدّم من أعميّة الاقتضاء من اللفظي والعقلي، إنّما هو فيما إذا كان الأمر بالشيء مقتضياً للنهي عن الضدّ العام، فإنّه في هذه الحالة يعقل أن يكون الاقتضاء لفظيّاً، فقيل: بأنّ الأمر بالشيء يدلّ بالمطابقة على النهي عن تركه، وقيل: بالتضمّن، وقيل: بالالتزام من جهة الملازمة بينهما باللزوم البيّن بالمعنى الأخص ـ أيْ صورة عدم انفكاك تصوّر الملزوم عن تصوّر الملازم ـ فإنّه متى كان اللزوم كذلك فالدلالة إلتزاميّة لفظيّة.
أمّا إذا كان الأمر بالشيء مقتضياً للنهي عن ضدّه الخاص، فلا وجه للدلالة اللفظيّة بل هي عقليّة، لأنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يدلّ على النهي عن ضدّه بالدلالة المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الإلتزاميّة، مبني على أنّ الأمر عبارة عن طلب الشيء مع المنع عن تركه، ومن الواضح أنّ الترك ضدّ عام، لكنّ الأمر بالإزالة ليس دالاًّ على النهي عن الصّلاة ـ التي هي ضدّها الخاص ـ بإحدى الدلالات المذكورة، إذ ليس الأمر بالإزالة عين النهي عن الصّلاة، ولا أنّ النهي عن الصّلاة جزء للأمر بالإزالة، ولا أن بينهما ـ أي مطلوبيّة الازالة ومبغوضيّة الصّلاة ـ اللزوم البيّن بالمعنى الأخص، لوضوح انفكاك تصوّر الصّلاة عن تصوّر الإزالة.
وتلخّص، أن لا مجال لشيء من الدلالات اللفظيّة في الضدّ الخاص.
فقد يقال باقتضاء الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاص اقتضاء عقليّاً، عن طريق كون ترك الضدّ الخاص مقدّمةً لوجود المأمور به، بأن يكون وجود الإزالة موقوفاً على عدم الصّلاة، بناءً على وجوب مقدّمة الواجب، بمعنى: أنّ الشارع لمّا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد، فإن أمره بذلك يقتضي وجوب عدم الصّلاة، ووجوب عدم الصّلاة يقتضي النهي عنها.
فهذا طريقٌ لاقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاص عقلاً.
وطريق آخر هو: دعوى الملازمة بين وجود الإزالة وعدم الصّلاة، ببيان: أنّه إذا وجبت الإزالة كان عدم الصّلاة ملازماً لوجود الإزالة، ولمّا كان المتلازمان متّفقين حكماً كان عدم الصّلاة واجباً.
وتفصيل الكلام في مقامين:
Menu