مقدّمة الحرام و المكروه
قال المحقّق الخراساني:
وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه، فلا تكاد تتّصف بالحرمة أو الكراهة، إذ منها ما يتمكّن معه من ترك الحرام أو المكروه اختياراً…(1).
أقول:
حاصل كلامه قدّس سرّه هو التفصيل، لأنّ المقدّمة على قسمين:
أحدهما: المقدّمة التي يتمكّن المكلّف مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه، لعدم كونها علّةً تامّةً ولا جزءً أخيراً للعلّة التامّة.
الثاني: المقدّمة التي لا يتمكّن المكلّف معها من ذلك، لكونها علّةً تامّة أو جزءً أخيراً لها.
ففي القسم الأول لا تكون المقدّمة حراماً أو مكروهاً، إذ مع الفرض المذكور لا وجه لذلك، لعدم كونها واجدةً لملاك المقدّميّة وهو التوقّف، بل يكون إتيانه لذي المقدّمة المحرَّم مستنداً إلى سوء اختياره، بخلاف القسم الثاني.
وبعبارة أُخرى: إنّه في كلّ مورد تتوسّط الإرادة بين المقدّمة وذيها، فلا تترشّح الحرمة أو الكراهة إلى المقدّمة، وفي كلّ مورد لا توسط للإرادة بينهما، كما في الأفعال التوليديّة، حيث النسبة بين المقدّمة وذيها نسبة العلّة التامّة والمعلول، فالمقدّمة تكون محرّمة أو مكروهةً كذلك.
وقال المحقّق النائيني(2)
بأنّ المكلّف تارةً: عنده صارف يصرفه عن ارتكاب الحرام وأُخرى: لا صارف عنده. فإنْ كان عنده صارف عن الحرام، فلا تتّصف المقدّمة بالحرمة، لعدم ترتّب أثر عليها.
وأمّا إن لم يكن عنده صارف فهنا صور:
( الصورة الأُولى ): أن يتعدّد المقدّمة وذو المقدّمة عنواناً ويتّحدا وجوداً، كصبّ الماء للوضوء حالكون الماء مغصوباً، فقد تحقّق عنوانان أحدهما: صبّ الماء وحكمه الوجوب والآخر: الغصب وحكمه الحرمة، لكنّهما متّحدان وجوداً، فالمورد من صغريات اجتماع الأمر والنهي، وتكون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسيّة ـ لا الغيريّة ـ لأنّ النهي حينئذ يتوجّه إلى نفس الفعل التوليدي.
( الصورة الثانية ) أن يتعدّد المقدّمة وذو المقدّمة عنواناً ووجوداً:
فإنْ كانت النسبة بين المقدّمة وذيها نسبة العلّة التامّة إلى المعلول ولا توسّط للإرادة، فالمقدّمة محرّمة حرمةً نفسيّة ـ مع كونها مقدّمة ـ لأنّها هي متعلّق القدرة والاختيار من المكلّف، وأمّا ذو المقدّمة فلا قدرة على تركه فلا تتعلّق به حرمة.
وإنْ لم تكن النسبة بينهما كذلك، فهنا صورتان:
1 ـ أن يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الحرام، فيكون القول بحرمتها مبنيّاً على القول بحرمة التجرّي، فعلى القول بذلك تكون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسيّة، وإلاّ فهي حرام بالحرمة الغيريّة.
2 ـ أن يأتي بها لا بقصد ذلك، فلا تكون صغرى للتجرّي، ولا وجه للحرمة حينئذ، لبقاء الإختيار والقدرة على ترك الحرام كما هو المفروض.
تحقيق الأُستاذ في هذا المقام
فقال الأُستاذ دام بقاه: إنّ مقتضى القاعدة ـ قبل كلّ شيء ـ تعيين المبنى في حقيقة النهي، وأنّه هل طلب الترك أو أنّه الزجر عن الفعل ؟
فعلى القول بوحدة الحقيقة في الأمر والنهي، وأن كليهما طلب، غير أنّ الأوّل طلب للفعل والثاني طلب للترك ـ كما هو مختار صاحب الكفاية ـ يتم التفصيل الذي ذهب إليه، لأنّ ما ليس علّةً تامّةً ولا جزءً أخيراً لها لا يتعلّق به طلب الترك، فلا يكون محرّماً بالحرمة الغيريّة، لأنّه غير واجد للملاك وهو المقدمية والتوقّف، لأنّ ما له دخل في ترك الحرام هو الجزء الأخير من العلّة التامّة، أمّا غيره من الأجزاء فلا دخل له في تحقّق الحرام.
وبهذا البيان يظهر الفرق بين مقدّمة الواجب ومقدّمة الحرام ـ مع كون كليهما طلباً على المبنى ـ فإن مقدّمات الواجب كلّ واحدة منها دخيل في تحقّق الواجب، فكلّ خطوة خطوة من طي الطريق للحج واجب، بخلاف مقدّمات الحرام إذ الدخيل ليس إلاّ الجزء الأخير.
وهنا يواجه المحقّق الخراساني مشكلةً يتعرّض لها بعنوان « إن قلت » وحاصلها: إنّ الإرادة علّة تامّة للحرام، فلابدّ وأن تكون منهيّةً عنها فهي محرمة. ثمّ يجيب بأنّ الإرادة غير إرادية، فلا يتعلّق بها التكليف لا النفسي ولا الغيري، وإلاّ لتسلسل.
فهذا توضيح مختار الكفاية.
فأشكل عليه الأُستاذ بإشكالين:
أحدهما: إنّ حقيقة النهي هو الزجر وليس طلب الترك.
والثاني: إنّ الإرادة يتعلّق بها التكليف، لكون أفعالنا اختياريّةً بالعرض.
أقول:
لكنّهما اشكالان مبنائيّان كما لا يخفى.
هذا بالنسبة إلى كلام المحقّق الخراساني.
وأمّا بالنسبة إلى كلام الميرزا، فقد أفاد الأُستاذ:
أمّا ما ذكره في الصّورة الأُولى ـ وهي ما إذا كان للمكلّف صارف عن الحرام ـ ففيه نظر، لأنّ مقتضى قانون الملازمة ـ بناءً على القول به ـ هو الحكم بحرمة المقدّمة الموقوف عليها فعل الحرام حرمةً غيريّة، سواء وجد الصّارف عن الحرام أو لا.
وأمّا ما ذكره في الصّورة الثانية ـ من سراية الحرمة إلى متعلّق الأمر فيما إذا كان العنوانان موجودين بوجود واحد ـ فتامٌ من حيث الكبرى، إلاّ أنّ المورد ليس من صغرياتها، لأنّ إجراء الماء على اليد غير متّحد وجوداً مع جريانه على الأرض المغصوبة، بل الجريان عليها أثر لإراقة الماء على اليد بعنوان الغسل.
وأمّا ما ذكره في الصّورة الثالثة ـ من عدم سراية الحرمة من ذي المقدّمة إلى المقدّمة، لكون ذي المقدّمة خارجاً عن القدرة في حال عدم توسط الإرادة بينهما ـ ففيه: بعد غضّ النظر عن اختلاف كلماته في هذا المورد، إنّ القدرة على المسبّب موجودة، لوجود القدرة على سببها الذي هو مقدّمة وجوديّة لذي المقدّمة، وحينئذ، فالذي يحرم بالحرمة النفسيّة هو ذو المقدّمة، أمّا المقدّمة فلا مفسدة ذاتية لها وإنْ كانت جزءً أخيراً للعلّة التامّة، فتكون محرّمةً حرمة غيريّة.
وأمّا ما ذكره في الصّورة الرابعة ـ وهي المورد الذي لا تكون المقدّمة فيه علّةً تامّةً، وقد أتى بها بقصد التوصّل إلى الحرام فهي على القول بحرمة التجرّي حرام نفسي، وعلى القول بعدم حرمته فهي حرامٌ حرمةً غيرية ـ ففيه:
أمّا التجرّي، فلا حرمة شرعيّة له، وإنّما يستتبع استحقاق العقاب بمناط أنّه خروج على المولى. وأمّا القول بالحرمة الغيريّة بناءً على عدم حرمة التجرّي، فالمفروض هنا هو القدرة على ترك الحرام مع الإتيان بالمقدّمة، فلا يتحقّق مناط الحرمة الغيريّة وهو التوقّف أو المقدميّة.
وأمّا ما ذكره في الصّورة الخامسة ـ من عدم حرمة المقدّمة، إنْ لم تكن علةً تامةً ولم يؤت بها بقصد التوصّل للحرام ـ فتام بلا كلام.
فالحق في المسألة
هو التفصيل بين مقدّمة الواجب ـ بناءً على القول بوجوبها ـ ومقدّمة الحرام، فإن مقدّمات الواجب تتّصف كلّها بالوجوب، لواجدية كلّ واحدة منها لملاك الوجوب الغيري، وهو توقف ذي المقدّمة عليها، بخلاف مقدّمة الحرام، فإنّ ذا المقدّمة إنّما يتحقّق بتحقّق المقدّمة الأخيرة، وأمّا غيرها من المقدّمات فلا أثر لها، لأنّ ملاك المقدمية غير متوفّر إلاّ في الأخيرة، فتكون هي وحدها المحرّمة بالحرمة الغيريّة، بناءً على ثبوت الملازمة.
هذا تمام الكلام في مبحث المقدّمة بجميع أقسامها.
ويقع الكلام في مبحث الضد.
(1) كفاية الأُصول: 128.
(2) أجود التقريرات 1 / 361.