المقام الثاني
إنه بناءً على تماميّة بقاء الجواز ثبوتاً ـ كما عليه المحقق العراقي ـ تصل النوبة إلى مقام الإثبات والبحث عن دلالة الدليل على البقاء، ولا دليل إلاّ الناسخ والمنسوخ. وتقريب الاستدلال هو: إن حكم الدليل الناسخ بالنسبة إلى الدليل المنسوخ حكم دليل الاستحباب بالنسبة إلى دليل الوجوب، فكما يقتضي ذاك الدليل رفع اليد عن ظهور ما دلّ على الوجوب وحمله على الاستحباب، كذلك ناسخ الوجوب، فإنه يزاحم المنسوخ في دلالته على الوجوب، أي شدّة الارادة، ويبقى دلالته على أصل الرجحان.
وقد أورد عليه المحقق العراقي(1): بأن هذا إنما يتمّ في الدليلين المتعارضين، كأن يقوم الدليل على الوجوب ثم يأتي دليل آخر مفاده « لا بأس بالترك »، فبمقتضى نصوصيّة الثاني أو أقوائيّة ظهوره يتقدّم على الأوّل، لا في دليلين أحدهما حاكم على الآخر، لأنه لا يلحظ في الحكومة جهة النصوصيّة أو الأقوائية بل الحاكم يتقدّم على المحكوم وإن كان أضعف ظهوراً منه. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ الدليل الناسخ ناظر إلى الدليل المنسوخ، وهذا معيار الحكومة، فلا يتم تنظير محلّ الكلام بالوجوب والاستحباب.
ثم قال: وبناءً على الحكومة، وأن الحاكم يتقدّم على المحكوم وإن كان أضعف ظهوراً، فإنّ الظهور العرفي قائم على كون الناسخ ناظراً إلى المنسوخ بجميع مراتبه لا بعضها، وعلى هذا، فإن المنسوخ يرتفع بتمام مدلوله ـ وهو الإرادة ـ وحينئذ لا يبقى شيء بعد ارتفاع الوجوب.
قال: أللّهم إلاّ إذا كان الناسخ مجملاً، فإنه يقتصر فيه على القدر المتيقّن، وهو نسخه لمرتبة الشدّة من الإرادة، فيبقى أصل الإرادة، إلاّ إذا سرى إجمال الناسخ إلى المنسوخ فيسقط من الأساس.
قال الأُستاذ
ولا يرد على المحقق المذكور: أن ما ذكره إنما يتم في صورة كون الظهور ذا مراتب، وهذا أول الكلام، إذ لا ينبغي الإختلاف في مراتب الظهور، وإلاّ لما أمكن تقدم النصّ على الظاهر، إذ النصوصيّة ليست إلاّ الشدّة في مرتبة الظهور.
لكنّ الإشكال الوارد عليه في استثنائه صورة إجمال الناسخ، إذ فيه:
أوّلاً: إن الناسخ دليل منفصلٌ عن المنسوخ، فيستحيل سراية إجماله إليه، وإلاّ لزم سراية إجمال كلّ مخصّص منفصل مجمل إلى العام، وعدم جواز التخصيص….
وثانياً: إن بقاء الرجحان في حال عدم سراية الإجمال ـ إن كان مجملاً ـ إلى المنسوخ، موقوف على دلالة المنسوخ على الرجحان، وهي إمّا بالإلتزام وإمّا بالتضمّن ـ وهو يقول بالثاني لأنه يرى أن الرجحان من مراتب الوجوب، والتحقيق هو الأول ـ لكنّ الدلالة التضمنيّة والإلتزامية فرعٌ للدلالة المطابقيّة، في الحدوث والحجيّة، فلو سقطت فلا تبقى الدلالتان، وفيما نحن فيه: تقع المزاحمة بين الناسخ والمنسوخ، إمّا في أصل مدلول المنسوخ وإمّا في حجيّته، وعلى كلّ تقدير، فإنّه يسقط، وإذا سقط المدلول المطابقي استحال بقاء شيء.
فالحق، أنه على مسلك المحقق العراقي في حقيقة الوجوب: لا يبقى دلالة على الرجحان المستلزم للجواز بالمعنى الأعم.
(1) نهاية الأفكار (1 ـ 2) 391.