الطريق الثامن
قال في ( المحاضرات )(1): الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة ـ تحفّظاً على ظواهر الأدلّة ـ هو: أن الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه، وتطبيقه على كلٍّ منهما في الخارج بيد المكلّف، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينيّة، غاية الأمر أن متعلّق الوجوب في الواجبات التعيينية هو الطبيعة المتأصّلة والجامع الحقيقي، وفي الواجبات التخييرية هو الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني.
( قال ) ولا مانع من تعلّق الأمر بالجامع الإنتزاعي، بل إنه تتعلّق به الصفات الحقيقية كالعلم ـ كما في مورد العلم الإجمالي ـ، فضلاً عن الشرعي وهو أمر اعتباري، فإنّه لا ريب في تعلقّه بالجامع الإعتباري كتعلّقه بالجامع الذاتي كالإنسان، فلا مانع من اعتبار الشارع ملكيّة احدى الدارين للمشتري إذا قال البائع: بعت أحداهما، بل ذلك واقع في الشريعة كما في باب الوصيّة.
إذن، يكون متعلّق الأمر عنوان « الأحد »، ومجرّد عدم الواقعية له لا يمنع من تعلّق الأمر به، إذ المفروض تعلّقه بالطبيعي الجامع، ولا فرق بين الجامع المتأصّل والانتزاعي… وهذا هو مقتضى ظواهر الأدلّة من جهة اشتمالها على « أو »، وحينئذ يكون الغرض قائماً بهذا العنوان، وهو يتحقق بالإتيان بأيٍّ من الفردين أو الأفراد، بلا دخل خصوصيّة شيء منها… فالمراد من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعي ـ ليس تعلّقه به بما هو موجود في النفس، ولا يتعدى عن أُفق النفس إلى الخارج، ضرورة أنه غير قابل لأن يتعلّق به الأمر ويقوم به الغرض ـ إنما هو بمعنى تعلّق الأمر به بما هو منطبق على كلّ واحد من الفعلين أو الأفعال في الخارج، ويكون تطبيقه على الخارج بيد المكلّف.
ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين الوجوب التعييني والتخييري إلاّ في نقطة واحدة، وهي كون المتعلّق في الأول الطبيعة المتأصّلة كالصّلاة مثلاً، وفي الثاني الطبيعة المنتزعة كعنوان أحدهما.
وهذا ملخّص هذا الطريق.
مناقشة الأُستاذ
إن العمدة في هذا المسلك كون متعلّق الأمر هو الجامع الإنتزاعي، لكن لا بما هو موجود ذهني، بل بما هو ملحوظ مرآة لما في الخارج، فنقول:
إذا كان المتعلّق كذلك، فما معنى قوله: « مرادنا من تعلّق الأمر به بما هو منطبق على كلّ واحد من الفعلين أو الأفعال في الخارج ويكون تطبيقه على ما في الخارج بيد المكلّف » ؟
إن الجامع الإنتزاعي موطنه النفس وليس له خارجيّة ـ بل ما في الخارج هو الجامع الحقيقي ـ فإن أراد سراية الأمر بتوسّط هذا الجامع إلى الخارج، فهذا أيضاً محال، لأنّ الخارج ليس بظرف لثبوت الأمر وتعلّقه بل هو ظرف سقوطه، وبعبارة أُخرى، فإن الجامع قبل التطبيق أمر ذهني لا خارجية له، وأمّا بعده، فإنّ الخارج ظرف سقوط الأمر لا تحقّقه.
هذا أوّلاً.
وثانياً: إن هذا الجامع ينتزعه العقل، فإن كان مصداق هذا الأحد المفهومي في الخارج هو الأحد المردّد، فهو يعترف بأن الأحد المردّد لا يتعلّق به التكليف ولا يقوم به الغرض، فلابدّ وأن يكون المصداق وما بإزائه في الخارج هو المعيّن، غير أن هذا المكلّف يطبّقه على هذا الفرد، والمكلّف الآخر يطبّقه على فرد آخر، فإن كان الغرض قائماً بالقدر المشترك بين الأفراد أصبح التخيير عقلياً، وإن كان قائماً بفرد معيّن خرج عن التخييريّة وكان الواجب تعيينيّاً، وإن كان لكلّ واحد واحد منها غرض غير أن مجموع الأغراض تزاحمها مصلحة التسهيل، عاد المطلب إلى طريق المحقق الإصفهاني… وقد تقدّم سلامة طريقه ثبوتاً عن كلّ ما أُورد عليه، ومع التنزّل عنه، فإن طريق السيد الخوئي يكون أحسن الطرق والمسالك في الباب.
وتلخّص: إن هذا الطريق وإن كان أحسن الوجوه وأقربها إلى النصوص، لكنّ الإشكال فيه من جهة الغرض باق، لأنّ العنوان الانتزاعي لا يحمل الغرض بل المعيّن هو الحامل له، لكن المفروض أنّ الواجب هنا غير معيّن. لأنه الأحد الخارجي، والأحد المردد خارجاً محال… فلا مناص من أن يكون الواجب كلّ من الأفراد بخصوصه، ويكون في كلّ فرد فرد مصلحة، فيقع التزاحم بين تلك الأغراض والمصالح ومصلحة التسهيل، وهو مبنى المحقق الإصفهاني.
لكن تقدّم أن في مبنى المحقق الإصفهاني اشكالين:
أولاً: إنه غير متطابق مع الأدلّة في مقام الإثبات.
وثانياً: إنّ الوجوب المشوب بجواز الترك مرجعه إلى الوجوب المشروط، إلاّ أن يرفع بالتحقيق الأتي إن شاء اللّه.
(1) محاضرات في أُصول الفقه 3 / 222.