الرأي النهائي
وبعد أن رفع الأُستاذ الإشكال عن مسلك السيد الخوئي، والذي كان قد اختاره سابقاً، لكونه الأقرب إلى ظواهر النصوص، ذكر أنّ مقتضى الدقّة في النصوص شيء آخر غير المسلك المزبور… فأورد بعض النصوص، واستظهر منها كون المجعول في موارد الوجوب التخييري ـ الذي هو مفاد « أو » ـ هو « التخيير »:
* محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي حمزة: عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: « إنّ اللّه فوّض إلى الناس في كفارة اليمين، كما فوّض إلى الإمام في المحارب أن يصنع ما يشاء. وقال: كلّ شي في القرآن « أو » فصاحبه فيه بالخيار »(1).
فالخبر ظاهر في أنّ المجعول في هذه الموارد هو « تخيير المكلّف » و« تفويض الأمر إليه » ولا فرق بين لسانه ولسان جعل الخيار في أبواب الخيارات، كقوله عليه السلام: « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا »(2) وقوله: « صاحب الحيوان بالخيار بثلاثة أيّام »(3).
فإن قيل: هذا ما يرجع إليه الوجوب التخييري.
نقول: حمل المبدء على النتيجة خلاف الظاهر، بل مفاد الخبر جعل المكلّف مختاراً كما جعل الإمام عليه السلام مختاراً في المحارب، ولسانهما واحد، وظاهرهما واحد… فيكون الحاصل: كما أن البيّعين بالخيار بين الفسخ وعدمه، كذلك من عليه الكفّارة بالخيار بين العتق والصيام والإطعام، نعم الفرق هو أنّ المجعول هناك هو الخيار الحقّي، والمجعول هنا هو الخيار الحكمي، وحكم الأول أنه قابل للإسقاط، وحكم الثاني أنه مثل الخيار في الهبة غير قابل للإسقاط.
والظاهر تماميّة سند الرواية، و« أبو حمزة » هو « الثمالي ».
وعن أبي عبداللّه عليه السلام: « في كفّارة اليمين، يطعم عشرة مساكين، لكلّ مسكين مدّ من حنطة أو مدّ من دقيق وحفنة أو كسوتهم لكلّ انسان ثوبان أو عتق رقبة، وهو في ذلك بالخيار أي ذلك شاء صنع »(4).
فالمجعول الشرعي كونه بالخيار.
والسند صحيح بلا كلام.
قال الأُستاذ: إن هذا هو الظاهر من الأخبار، وإذ لا مانع ثبوتاً وإثباتاً من الأخذ به، فمقتضى الصناعة العلميّة هو الأخذ بالظهور.
ويبقى الكلام في ضرورة تصوير الجامع بين الأفراد….
ولنرجع إلى الروايات في ذلك، فإنّا نرى أنّ التخيير في الوجوب التخييري شرعي ـ وليس بعقلي ـ وقد وجدنا أن مقتضى الظواهر هو « الكفارة » و« الفدية » وهذا هو الواجب لا « أحد الأُمور »:
وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: « سألته عن المحرم يصيد الصيد بجهالة. قال: عليه كفّارة ».
فالمجعول على ذمة المكلّف هو « الكفارة »… فكان ما يكفر به الذنب أن « يصوم ستين يوماً » أو « يطعم ستين مسكيناً » أو « يعتق رقبةً » وكلّ واحد من هذه الأُمور مصداق للجامع وهو « الكفارة »، وقد فوّض الأمر إلى المكلّف في التطبيق والعمل، كما فوّض إلى الإمام عليه السلام في المحارب إذ قال تعالى ( إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ… ).
ثم قال الراوي:
قلت: إنه أصابه خطأ.
قال: وأيّ شيء الخطأ عندك ؟
قلت: ترمي هذه النخلة فتصيب نخلةً أُخرى.
قال: نعم، هذا الخطأ وعليه الكفارة ».
فكان ما « عليه » هو « الكفارة ».
قلت: إنه أخذ طائراً متعمّداً فذبحه وهو محرم.
قال: عليه الكفارة.
قلت: جعلت فداك، ألست قلت إن الخطأ والجهالة والعمد ليسوا بسواء… »(5).
وسندها صحيح.
وعن أبي عبداللّه عليه السلام: مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على كعب بن عجرة الأنصاري والقمّل يتناثر من رأسه. فقال: أتؤذيك هوامك ؟ فقال: نعم. قال: فأنزلت هذه الآية ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ).
فالواجب هو عنوان « الفدية » ( مِنْ صِيام أَوْ صَدَقَة أَوْ نُسُك ) و« من » هذه بيانية.
( قال عليه السلام ): « فأمره رسول اللّه بحلق رأسه وجعل عليه الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين، لكلّ مسكين مدّان، والنسك شاة.
( قال عليه السلام ): « وكلّ شيء في القرآن « أو » فصاحبه بالخيار يختار ما شاء »(6).
وعن أبي عبداللّه عليه السلام:
« في رجل أتى امرأته وهي صائمة وهو صائم. قال: إن كان استكرهها فعليه كفّارتان، وإن كانت مطاوعته فعليه كفارة وعليها كفارة »(7).
وعن أبي عبداللّه عليه السلام: « في الرجل يلاعب أهله أو جاريته وهو في قضاء شهر رمضان، فيسبقه الماء فينزل. قال: عليه من الكفارة مثل ما على الذي يجامع في رمضان »(8).
قال الأُستاذ:
ولو تنزلنا عن هذا، فالمختار من بين الوجوه المتقدمة هو مسلك السيد الخوئي.
هذا تمام الكلام في الواجب التخييري بين المتباينين.
(1) وسائل الشيعة 22 / 377 الباب 12 من أبواب الكفارات.
(2) وسائل الشيعة 18 / 6 الباب الأول من أبواب الخيار.
(3) وسائل الشيعة 18 / 5 الباب 3 من أبواب الخيار.
(4) وسائل الشيعة 22 / 375، الباب 12 من أبواب الكفارات.
(5) وسائل الشيعة 13 / 69 الباب 31 من أبواب كفّارات الصيد.
(6) وسائل الشيعة 13 / 166 الباب 14 من أبواب بقية كفّارات الإحرام.
(7) وسائل الشيعة 28 / 377 الباب 12 من أبواب بقيّة الحدود والتعزيرات.
(8) وسائل الشيعة 10 / 130 الباب 56 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.