والكلام الآن فيما أُشكل به على القول بالترتّب:
الإشكال الأوّل
فقد قال في ( الكفاية ): ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، ولذا كان سيدنا الأُستاذ ـ قدّس سرّه ـ لا يلتزم به على ما هو ببالي، وكنّا نورد به على الترتّب وكان بصدد تصحيحه(1).
وتوضيحه: إنه على القول بالترتّب، يكون هناك تكليفان وجوبيّان، أحدهما بالأهم والآخر بالمهم، وكلّ تكليف يستتبع استحقاق العقاب على تركه، ففي صورة مخالفة التكليفين وترك الواجبين يستحق العقوبتين، والحال أن المكلّف لم يكن له القدرة على امتثال كليهما، فكيف يستحق العقاب على ترك ما لا يقدر عليه ؟
الجواب
وقد أُجيب عن هذا الاشكال بجوابين: أما نقضاً: فبموردين، أحدهما: في الواجب الكفائي، حيث أنه لو تُرك الواجب كفايةً، يستحق كلّ المكلّفين به العقاب عليه، مع أن القيام به لم يكن مقدوراً إلاّ لواحد منهم. والمورد الآخر: هو صورة تعاقب الأيدي على مال الغير، فلو أنّ أحداً غصب مالاً ثم انتقل المال إلى غيره ومنه إلى ثالث وهكذا، فإن الأيدي المتعاقبة هذه تستحق العقاب على الغصب، مع أن الغاصب هو واحد منهم وليس كلّهم….
وأمّا حلاًّ: فإنّ تعدّد العقاب لا محذور فيه، إذ العقاب ليس على الفعل كي يقال بأن الجمع بين الأهم والمهم في الإتيان غير مقدور ـ لكون القدرة على أحدهما فقط ـ بل العقاب هو على الترك للتكليف، والجمع بين التكليفين ـ الأهم والمهم ـ في الترك مقدور، فكان العقاب على أمر مقدور صادر عن اختيار. وكذلك الحال في الواجب الكفائي.
وببيان آخر: إنّه لمّا ترك الأهم واستحق العقاب على تركه، كان بإمكانه الإتيان بالمهم، فلمّا تركه استحق عقاباً آخر غير استحقاقه له على تركه للأهم.
وتلخص: اندفاع الإشكال، وحاصله الإلتزام بتعدّد العقاب.
قال الأُستاذ
إن ملاك استحقاق العقاب يكون تارةً هو « ترك الفعل المقدور » وأُخرى: « الترك المقدور » ففي الواجب الكفائي يستحق المكلّفون العقاب لتحقّق « ترك فعل مقدور » كدفن الميت أو الصّلاة عليه مثلاً، فقد كان فعلاً مقدوراً لم يقم به أحد منهم، فاستحقّوا العقاب على تركهم له.
أمّا فيما نحن فيه، فإن المقدور ليس الفعل، أي امتثال الأمرين، بل هو الترك، فإنّ ترك هذا وذاك مقدور، فهما تركان مقدوران….
وعليه، فإن كان مناط استحقاق العقاب هو الجمع بين التركين المقدورين، فالجواب صحيح، ويتمّ الالتزام باستحقاق العقابين. وأمّا إن كان المناط في استحقاق العقاب هو ترك ما هو المقدور، فالمفروض عدم كون كليهما مقدوراً ليتحقق التركان ويُستحق العقابان… لكن ما نحن فيه من قبيل الثاني، لأن المطلوب فيه هو الفعل لا الترك. وبعبارة أُخرى: إن بحثنا في الواجب لا الحرام، ومن المعلوم أنّ العقاب في الواجبات يكون على ترك الفعل، ولابدّ وأن يكون الفعل مقدوراً حتى يجوز على تركه، لكنّ المقدور فعل واحد، فليس إلاّ عقاب واحد.
وتلخّص: إن العقاب يتبع كيفيّة التكليف، فإذا كان مناطه ترك الفعل المقدور ـ لا الترك المقدور ـ فإنّ الفعل المقدور واحد وليس بمتعدّد، وتركه يستتبع عقاباً واحداً، فكيف يلتزم الميرزا وغيره باستحقاق العقابين ؟
ويؤكّد ذلك: إن لازم كلامهم عدم الفرق بين القادر على امتثال كلا الأمرين التارك لهما، كما لو قدر على إنقاذ الفريقان فلم يفعل لهما، والقادر على امتثال أحدهما التارك له، كما لو تمكّن من إنقاذ أحدهما وترك، فهل يفتي الميرزا وأتباعه بتساويهما في استحقاق العقاب ؟
(1) كفاية الأُصول: 135.