الأنظار في كيفية تعلّق الإرادة ونحوها بالمردّد
وقد فصّل شيخنا الاستاذ الكلام في أصل البحث وذكر الأنظار فيه، وذلك لضرورة الوصول إلى منشأ الخلاف في أنّ المردّد هل يمكن أن يقع متعلّقاً للإرادة أو للاعتبار أو لصفة وجوديّة، أو لا ؟
لقد ذكر الشيخ في ( المكاسب )(1) مسألة ما لو باع صاعاٌ من الصبرة، فهل يحمل على الكسر المشاع، فلو كان عشرة أصوع يكون المبيع هو العشر، أو يكون كلّياً معيّناً، أو يكون فرداً من أفراد الأصوع على البدل ؟ ثم أشكل على الوجه الأخير بوجوه، منها: إن التردّد يوجب الجهالة، وأنه يوجب الغرر، وأنه غير معقول، وهذا محلّ الشاهد هنا.
إن تعلّق البيع بفرد مردد من أفراد الأصوع غير معقول، لأنّ الملكيّة صفة وجوديّة، والصفة الوجوديّة لا يعقل أن تتعلّق بالشيء المردد… وهذا هو الإشكال.
وقد أجاب عنه: بأنّ الصفة الوجوديّة على قسمين: فتارةً: هي صفة وجوديّة خارجيّة، كالسواد والبياض، فهذه لا تقبل التعلّق بالمردد، لأنها عرض خارجي وهو لا يوجد إلاّ في موضوع، والمردّد ليس له وجود حتى يتحقّق فيه العرض ويقوم به. وأُخرى: هي أمر اعتباري، وهذه تقبل التعلّق بما ليس له وجود خارجي، كما في بيع الكلّي في الذمة، والمبيع في باب السّلم.
فالشيخ يرى أن الصّفة الوجوديّة إن كانت اعتباريةً فهي تقبل التعلّق بالمردّد.
وخالفه المحقق الخراساني(2)، فذهب إلى أن الصفة الوجوديّة الحقيقيّة أيضاً تقبل التعلّق بالمردّد، وقد تقدّم كلامه في حاشيته على الكفاية، إذ صرّح بأنّ العلم يمكن تعلّقه بالمردّد كما في موارد العلم الإجمالي، بخلاف مثل البعث، لأنه ليس بصفة بل إنه إيجاد للدّاعي في نفس العبد، وإيجاده نحو المردّد محال. وبعبارة أُخرى: كلّما يكون له جهة الباعثيّة والمحرّكيّة، فلابدّ وأن يكون متعلّقه مشخصاً، وأمّا ما يكون ـ مثل العلم ـ لا جهة باعثيّة له، فلا مانع من تعلّقه بالمردّد.
وأمّا الميرزا، فقد جعل ملاك الإفتراق في الإرادة جهة التكوينيّة والتشريعيّة، فخالف المحقق الخراساني القائل بعدم تعلّق ما كان له باعثية ـ وإنْ كانت تشريعيّة ـ بالشيء المردّد.
ولكنّ المحقق الاصفهاني خالف الكلّ، وأنكر التعلّق بالمردد، سواء في الصفة الحقيقيّة أو الاعتباريّة، وفي الإرادة التكوينيّة أو التشريعيّة، وسواء فيما له جهة الباعثيّة وغيره… وله على هذا المدّعى برهانان:
( الأول ): إن الوجود عين التشخّص والواقعيّة، فكلّ موجود متشخّص، ولا يعقل فيه أيّ إبهام واجمال، حتى لو كان الوجود اعتباريّاً، فلا يعقل أن يكون مردّداً، لأنّ الوجود هو التعيّن، وبينه وبين التردد تقابل ولا يمكن اجتماعهما أبداً.
و( الثاني ): إن المردّد المصداقي محال، لأنّ التردّد إمّا يكون في ذات الشيء وإمّا في وجوده، أمّا الذات، فهي متعيّنة ولا يعقل الإبهام والتردد فيها. وأمّا الوجود، فقد تقدّم.
وبعبارة أُخرى: إنه لو كان للمردّد مصداق خارجي، وقع الإشكال في الأُمور ذات التعلّق، كالإرادة والبعث والحبّ والملكيّة وأمثالها، ـ سواء التكوينيّة منها والإعتبارية ـ فهي أُمور لا يحصل لها الوجود إلاّ بالمتعلّق، لكنّ الوجود لا يقبل التردّد، فلو تعلّقت الإرادة مثلاً بمردّد لزم إمّا تعيّن المردد أو تردّد المعيّن، وكلاهما محال، لأنّ الأوّل انقلاب، والثاني خلف.
وبالنظر إلى هذين البرهانين نقول ـ وفاقاً للمحقق الإصفهاني ـ بعدم صلاحيّة المردّد لأن يكون متعلّقاً للإرادة ـ… وتبقى المناقشة بذكر نقوض، من قبيل الوصية بعتق أحد العبدين، وتمليك أحد الولدين، أو هبة أحد المالين، أو بيع المعدوم كما في بيع السلف. ولابدّ من حلّها في كتاب البيع.
(1) كتاب المكاسب: 195 ط 1.
(2) كفاية الأُصول: 141.