إشكالات المحاضرات
وأورد عليه في المحاضرات من جهات:
( الأُولى ) إنّ ما أفاده قدّس سرّه ـ من التفصيل بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز، والقول بأنه اقتضاء نفس التكليف، فيسلّم ما ذكره المحقّق الثاني على الأوّل دون الثاني ـ لا يرجع إلى معنى محصّل، بناءً على ما اختاره من استحالة الواجب المعلّق وتعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور في ظرفه، وبيان ذلك باختصار هو:
إنّ الأمر في الواجب الموسّع وإنْ تعلّق بالطبيعة وبصرف الوجود منها، إلاّ أنّه مشروط بالقدرة عليها، وذلك لا يمكن إلاّ بأن يكون بعض وجوداتها ـ ولو كان واحداً منها ـ مقدوراً للمكلّف، أمّا لو كان جميع أفرادها غير مقدور للمكلّف ولو في زمان واحد، فلا يمكن تعلّق التكليف بنفس الطبيعة في ذلك الزمان إلاّ على القول بجواز الواجب المعلّق. وحيث أنّ الواجب الموسّع في ظرف مزاحمته مع الواجب المضيّق غير مقدور بجميع أفراده، فلا يعقل تعلّق التكليف به، ـ ليكون انطباقه على الفرد المزاحم قهريّاً وإجزاؤه عن المأمور به عقليّاً ـ إلاّ بناء على صحة الواجب المعلّق، حيث يتعلّق الطلب بأمر متأخّر مقدور في ظرفه. ولا يفرّق في ذلك بين المسلكين في منشأ اعتبار القدرة في المتعلّق.
نعم، إنما يتمّ كلام الميرزا فيما إذا كان للواجب أفراد عرضيّة، وكان بعضها ـ لا كلّها ـ مزاحماً بواجب مضيّق، لأنه يصحّ حينئذ الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر بالطبيعة المقدورة بالقدرة على بعض أفرادها، بناءً على قول المحقّق الثاني، كما لو وقعت المزاحمة بين بعض الأفراد العرضيّة للصّلاة وإنقاذ الغريق، في أحد مواضع التخيير بين القصر والإتمام، حيث أنّ الفرد المزاحم للإنقاذ هو الإتمام، فيلزم عليه اختيار القصر ليتمكّن من الإنقاذ أيضاً، فلو اختار التمام وعصى الأمر بالأهم ـ وهو الإنقاذ ـ فالصّلاة صحيحة، لكونها فرداً من الطبيعة المأمور بها، المقدور عليها بالقدرة على فرد وهو القصر… أمّا بناءً على مبنى الميرزا فلا تصحّ، لأنّ متعلّق التكليف هو الفرد المقدور وهو القصر، وهذا الفرد غير منطبق على الفرد المزاحم.
لكنّ الكلام في الأفراد الطولية.
الجواب
أما سيّدنا الأُستاذ، فقد ذكر أنّ هذا الإيراد من المحقق الإصفهاني(1) وقد أوضحه السيّد الخوئي مفصّلاً. قال: وهو وجه لطيف لكنه لا يخلو عن مناقشة سيأتي التعرّض لها في غير هذا المقام(2). لكنّا لم نوفّق للوقوف عليه. وأمّا شيخنا الأُستاذ، فقد أجاب عن هذا الإشكال: بأنّ تعلّق التكليف ـ بناءً على القول بالواجب المعلّق ـ وإنْ كان معقولاً، بأن يتعلّق الأمر بالعبادة الموسّعة كالصّلاة في حال مزاحمتها بالواجب المضيّق، على نحو يكون الوجوب الآن والواجب في المستقبل، لاستحالة تعلّق الأمر الآن بالطبيعة من جهة كونها في حال المزاحمة غير مقدورة بجميع أفرادها، إلاّ أن انطباق الواجب على الفرد المزاحم مورد للإشكال، لأنّ حقيقة الواجب المعلّق هو أن يكون الوجوب مطلقاً والواجب معلّقاً على الزمان الآتي، فيكون الوجوب الآن والواجب مقيّداً، وإذا كان الواجب مقيّداً كذلك كان غير قابل للتطبيق ـ بما هو واجب ـ على الفرد في أوّل الوقت، إذ الفرد في أوّل الوقت لا يكون فرداً للطبيعة بما هي مأمور بها.
والحاصل: إنّ الواجب إنْ كان لا بشرط بالنسبة إلى الزمان الآتي، فانطباقه على جميع أفراد الطبيعة ممكن، لكنّه ليس بواجب معلّق، وإن كان مشروطاً به، فهو غير منطبق الآن على الفرد بعنوان الواجب.
ولو قيل: بأن تقيّد الواجب بالزمان اللاّحق يكون تارةً من جهة كونه دخيلاً في الملاك والغرض، كما في الحج حيث أنّ الوجوب الآن والواجب مقيّد بأيام المناسك، وهو قيد دخيل في الغرض، وأُخرى من جهة عدم قدرة المكلّف لا لدخله في الغرض، فيتقيّد الواجب بزمان بعد زمان المزاحمة مع الأهم، وما نحن فيه من قبيل الثاني لا الأوّل، فهو ذو ملاك.
فإنّه يمكن الجواب: بأنّ الفرق المذكور موجود، لكن كليهما شريكان في عدم إطلاق الواجب، ومع تضيّق دائرة الواجب المأمور به، لا يمكن القول بأن هذا الفرد فرد للمأمور به بما هو مأمور به، فالاشكال باق.
هذا، على أنّ احراز واجديّة الواجب المقيّد بزمان بعد المزاحمة للغرض وأن تقيّده بذلك إنّما هو من جهة عدم القدرة، أمر مشكل.
( الجهة الثانية ) قال: إنّه لو تنزّلنا وسلّمنا الفرق بين القولين، فلا يتمُ ما أفاده الميرزا كذلك بالنظر إلى مختاره من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فكلّ مورد لم يكن فيه التقييد فالإطلاق غير ممكن. وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ تقييد الطبيعة المأمور بها بالفرد المزاحم مستحيل، فإطلاقها بالنسبة إليه كذلك حتى على قول المحقّق الثاني في اعتبار القدرة في التكليف.
والحاصل: إنّه لا يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم، لعدم إطلاق المأمور به، ليكون الإتيان به بداعي الأمر حتى على القول بصحّة الواجب المعلّق.
نعم، بناءً على ما حقّقناه من أنّ التقابل بينهما من قبيل التضادّ، يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة، بناءً على جواز تعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور في ظرفه كما هو المفروض، لأنّه إذا استحال التقييد كان الإطلاق ضروريّاً.
جواب الأُستاذ
فأجاب الأُستاذ: بأنّ استحالة التقييد إنّما تستلزم ضرورة الإطلاق فيما إذا كان التقييد ممكناً، أمّا لو لم يتمكّن المولى من التقييد فلا، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ المولى ـ كما يعترف المستشكل ـ غير متمكّن من التقييد بالفرد المزاحم، وحينئذ، فلا يكون الإطلاق كاشفاً عن كون مراده مطلقاً….
والحاصل: إنّه لا اعتبار لمثل هذا الإطلاق.
( الجهة الثالثة ) في أنّ القدرة غير معتبرة في صحّة التكليف، وهو القول الثالث من الأقوال في المسألة، فلا هي معتبرة بحكم العقل، ولا هي معتبرة باقتضاء الخطاب، بل إنّها معتبرة بحكم العقل في مرحلة امتثال التكليف. قال: وذلك: لأنّ حقيقة الحكم والتكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمّة المكلّف وإبرازه في الخارج بمبرز، وهذا الاعتبار لا يقتضي اختصاص الفعل بالحصّة المقدورة، ضرورة أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغير المقدور.
فالحاصل: إنّه لا مقتضي من قبل الخطاب لاعتبار القدرة في المتعلّق، وكذا العقل، فإنّه لا يقتضيه إلاّ في ظرف الإمتثال، فإذا لم يكن المكلّف حين جعل التكليف قادراً على الامتثال وأصبح قادراً عليه في ظرفه، صحّ التكليف ولا قبح فيه عقلاً.
جواب الأُستاذ
وقد أجاب عنه الأُستاذ: بأنّ اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلّف فعل اختياري له، وكلّ فعل اختياري فهو معلول للغرض، وليس الغرض إلاّ جعل الداعي للعبد نحو الفعل، وحينئذ تعود نظرية الميرزا من أن جعل الداعي يقتضي القدرة على المدعوّ إليه، فلو كان عاجزاً عن الامتثال لم يمكن من المولى جعل الداعي له، فإنْ كان التكليف مطلقاً جعل الداعي كذلك، وإنْ كان مشروطاً بشرط كان الداعي في ظرف تحقّق الشرط، وأمّا إن كان معلّقاً ـ بأنْ يكون الوجوب فعليّاً والواجب استقباليّاً ـ فإنْ البعث الإمكاني الفعلي نحو الأمر المتأخّر يقتضي إمكان الإنبعاث في الواجب في ظرفه، وكذلك الحال بناءً على إنكار الواجب المعلّق، فإنّ البعث الإمكاني يقتضي الإنبعاث الإمكاني.
فالحاصل: إنّه على جميع التقادير والأقوال: البعث الإمكاني يقتضي الإنبعاث الإمكاني.
(1) نهاية الدراية 2 / 250.
(2) منتقى الأُصول 2 / 371.