الجهة الثانية: في معنى «نفس الأمر» في كلام الكفاية.
قال صاحب (الكفاية) ـ في بحث الطلب والإرادة(1): الإنشاء قول يقصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر، وقد سبقه في هذا القول الشهيد الأول قدّس سرّه، وإنْ اختلف مرادهما:
فالمحقّق الخراساني يرى أن الإنشاء قول يتحقّق به مفاد كان التامّة، في قبال الإخبار فإنه قول يحكي عن مفاد كان الناقصة، فالإنشاء عنده موجد للمعنى، غير أنه يوجد بوجود منشأ انتزاعه، ومراده من «نفس الأمر» هو أن ذلك المعنى يخرج بواسطة الإنشاء عن حدّ فرض الفارض، أما قبله فهو على حدّ فرض الفارض، فلمّا يقال: ملّكتك الدار مثلا، تكون ملكيّة الدار للطرف الآخر قبل الإنشاء من قبيل افتراض كون الإنسان حجراً، أمّا بعده، فالملكيّة تخرج عن هذا الحدّ، ويصبح الطرف مالكاً للدار، لكنْ ليس في الخارج بأزاء الدار وصاحبها شيء، وإنما يتحقّق الوجود للملكيّة بوجود منشأ انتزاعها وهو الإنشاء.
فهذا معنى: إن الإنشاء قول يقصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر… وقد ظهر أيضاً الفرق عنده قدّس سرّه بين الإنشاء والإخبار. وظهر أن مراده من «نفس الأمر» هو ما يقابل فرض الفارض.
وهذا غير ما هو المصطلح عند الفلاسفة، حيث يجعلون وعاء «نفس الأمر» وعاءً في قبال وعاء الذهن، ووعاء الخارج، فوعاء الخارج ووعاء الذهن ظرفان لوجود الماهيّة، وللماهية ظرف في عالم التصوّر هو نفس الأمر.
كما أنّه غير مصطلح الاصوليين، فهم يريدون من «وعاء الأمر» ثبوت الشيء ثبوتاً غير قائم بالإعتبار، كالملازمة بين «تعدّد الآلهة» وبين «الفساد» المستفادة من الآية المباركة، فإنها موجودة في وعاء نفس الأمر، ولا تدور مدار الإعتبار، بخلاف ملكيّة زيد للدار، فإنَّ قوامها الاعتبار، وليس لها واقعيّة كواقعية الملازمة المذكورة.
وأما الشهيد الأوّل، فقد ذكرنا أنه قد استعمل هذا المصطلح، ولكنّه أراد من قوله «نفس الأمر» ـ في العبارة المذكورة ـ الإحتراز عن الإنشاء المكرَّر، فقول المنشئ: ملّكتك الدار قول قصد به ثبوت الملكيّة للمشتري، فإذا قاله ثبت ذلك، فلو قاله مرةً اخرى فلا يحصل به المعنى، لأنه لو حصل لكان من تحصيل الحاصل.
ويقول المحقق الخراساني: كلّما تكرّر القول حصل فرد من ذلك المعنى الإنشائي، إلاّ أنه يكون تأكيداً، لا أنّ الصيغة ـ في المرّة الثانية ـ خارجة عن الإنشائيّة.
والحاصل:
إنه في الصيغة الإنشائيّة يُقصد ثبوت ووجود المعنى بنفس الصّيغة، بدون أيّة حكاية، والثبوت هو بنحو مفاد كان التامّة، بخلاف الإخبار، فإنه بنحو مفاد كان الناقصة وهو حكاية عن الثبوت.
هذا في الصيغة، أي صيغة إفعل، الدالّة على الطلب.
وكذلك الحال في بقيّة المعاني الإنشائيّة، فالمعنى في جميعها هو إيجاد الطلب، غير أن الدواعي تختلف.
وكذلك الحال في الإستفهام والترجّي والتمنّي، فهو إيجاد الإستفهام بالوجود الإنشائي بداعي الإستفهام الحقيقي، أو بداعي الإنكار، وإيجاد للترجّي إنشاءً ـ وهو في حق الباري تعالى جائز كما في قوله: ( لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )(2) وليس حقيقةً، لامتناعه في حقّه لإستلزامه الجهل والعجز ـ وهكذا إيجاد للتمنّي إنشاءً…
وهذا توضيح مبنى صاحب (الكفاية) في الصيغة الإنشائيّة.
(1) قال في ص66: وأما الصيغ الانشائية فهي موجدة لمعانيها في نفس الأمر، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها وهذا نحو من الوجود، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعاً وعرفاً آثار، كما هو الحال في صيغ العقود والايقاعات.
(2) سورة طه: 46.