دلالة الأمر على الوجوب بالعقل والسّيرة
وبعد أنْ ظهر ضعف الأقوال المتقدّمة في دلالة الأمر على الوجوب، وأنّه لا يدل ـ لا مادّةً ولا صيغةً ـ على الوجوب، لا بالوضع ولا بالإطلاق، فالمبنى الباقي هو الدلالة على الوجوب بحكم العقل، وهو مسلك المحقق النائيني، وتبعه المحققون من تلامذته(1)، وحاصله:
إن الحاكم في باب وظيفة العبد تجاه المولى وأوامره ونواهيه إنما هو العقل، فإنّه يحكم بأنّ المولى إذا أمر عبده بشيء فمقتضى وظيفة العبوديّة هو أنْ يمتثل الأمر ويلبّي الطلب، إلاّ إذا جاء من المولى الترخيص والإذن في الترك، ولذا لو لم يمتثل ثم اعتذر بعدم نصب المولى القرينة على الإلزام، فلا يقبل عذره ولم يقبح عقابه.
وعلى الجملة، فلما لم تكن الدلالة على الوجوب لا بالوضع ولا بالإطلاق، فهي بحكم العقل من باب حقّ الطاعة .
وفيه إشكال: وهو أنه إذا كانت الدلالة عقليّة، ولا دور للّفظ فيها، فما معنى جمع الميرزا نفسه وسائر الفقهاء بين الأمر، وبين «لا بأس بالترك» بالجمع الدلالي؟ إنهم في مثل هذين الدليلين يقولون بأنّ الأمر ظاهر في الوجوب، وقوله «لا بأس» نصٌّ في جواز الترك، فترفع اليد عن ظهور الأمر بالنصّ على جواز الترك، مع أنّ المفروض أنّ الدلالة على الوجوب ليست من ناحية اللّفظ أصلا، بل هي من العقل، فلا معنى لظهور الأمر في الوجوب، ولتقديم النصّ عليه.
وكذلك الكلام في باب الإطلاق والتقييد، والعام والخاص، فإنّ الميرزا وأتباعه يقولون بأنَّ المقيّد والمخصِّص قرينة للمطلق وللعام، وبها ترفع اليد عن ظهورهما في العموم والإطلاق، لأنّ الأمر ـ في مثل «أعتق رقبةً» ـ قد تعلَّق بصرف الوجود بنحو الإطلاق، ثم في قوله «أعتق رقبةً مؤمنة» يتعلَّق الأمر بالرقبة بنحو التقييد، فإمّا ترفع اليد عن ظهور القيد في القيديّة، فلا يجب عتق الرقبة المؤمنة، وإمّا ترفع اليد عن إطلاق «أعتق رقبةً» فلا يكفي عتق الكافرة، فبين الخطابين منافاة، وعند دوران الأمر يقولون بلزوم الأخذ بالدليل المقيِّد، لكون الأمر بعتق المؤمنة ظاهراً في عتق خصوص هذا الفرد من الرقبة، ونسبته إلى الأمر المطلق نسبة القرينة إلى ذي القرينة، والقرينة ظهورها مقدَّم على ظهور ذي القرينة.
فيرد عليهم: إنَّ القرينة وذا القرينة وغير ذلك من شئون اللَّفظ، فما ذكروه إنّما يتمُّ على مبنى قرينيّة المقيَّد والمخصِّص.
وكذا يتمُّّ تقديم المقيِّد والمخصِّص بمناط أظهريّتهما من المطلق والعام، وهو مسلك الشيخ الأعظم، كالجمع بين لفظي «الأسد» و «يرمي» حيث أن ظهور الأسد في الحيوان المفترس لفظي، وظهور يرمي في رمي السهم إطلاقي، ويتقدَّم الظهور للفظ «يرمي» ـ مع كونه اطلاقياً ـ على ظهور «الأسد» مع كونه وضعيّاً.
أمّا بناءً على ما ذهبوا إليه من أنّ دلالة الأمر على الوجوب بحكم العقل، فإنَّ مقتضى القاعدة هو الورود لا التقييد، لأنّ حكم العقل بالوجوب تعليقي لا تنجيزي، من جهة كونه معلَّقاً على عدم الرخصة في الترك، فهو يقول: كلّما جاء الأمر ولا دليل على الرخصة فهو للوجوب، فإنْ قام الدليل على الرخصة تقدَّم من باب الورود، لأنه يرفع موضوع حكم العقل.
فظهر وجود التنافي بين كلماتهم في المقام، وكلماتهم في باب الإطلاق والتقييد وباب العام والخاص.
وتلخَّص: أن دلالة الأمر على الوجوب لا تتم بحكم العقل، ما لم يرجع الوجوب إلى اللّفظ، وذلك بأحد اُمور ثلاثة:
إمّا دعوى التبادر. وهي مردودة، لأنّ المفروض عدم انسباق الوجوب من حاق لفظ مادّة الأمر أو صيغته.
وإمّا دعوى الظهور الإطلاقي. أي إنصراف المادّة أو الصيغة إلى الوجوب، وقد ظهر عدم تماميّة هذه الدعوى عند الكلام على تقريب المحقق العراقي.
أقول: وبذلك يظهر التأمّل في كلام السيّد الاستاذ، فإنّه ـ بعد أنْ ذكر أن صحّة تقسيم الأمر إلى الإيجاب والندب دليل على كون اللفظ موضوعاً للأعم من الطلب الوجوبي والندبي، وأنّ صحة مؤاخذة العبد بمجرَّد مخالفة الأمر ظاهرة في ظهور الأمر في الوجوب ـ قال: «ويمكن الجمع بالإلتزام بوضع لفظ الأمر للأعمّ مع الإلتزام بأنه ينصرف مع عدم القرينة إلى الطلب الوجوبي والإلزامي وينسبق إليه، فيتحفَّظ على ظهور كلا الأمرين المزبورين ـ أعني التقسيم والمؤاخذة ـ وتكون النتيجة موافقة لمدّعى صاحب (الكفاية) وإنْ خالفناه في المدّعى والموضوع له »(2).
وإمّا دعوى السيرة العقلائيّة، بأنها قائمة على استفادة الوجوب عند عدم القرينة على الرخصة… ولا ريب في وجود هذه السيرة، فإنّهم يحملون أوامر المولى ـ مع عدم القرينة على الرخصة ـ على الوجوب، ويرون استحقاق العقاب على المخالفة… وقد ذكر المحقق الإصفهاني في المعاملات أن منشأ هذه السيرة هو حفظ الاُمور المعاشيّة، ويبقى إمضاء الشارع المقدس لهذه السيرة، وذلك ثابت بوضوح من الرواية التالية:
الصدوق قدّس سرّه بإسناده عن زرارة ومحمّد بن مسلم قالا: «قلنا لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول في الصلاة في السّفر؟ كيف هي؟ وكم هي؟ فقال: إن الله عزّوجلّ يقول: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ) فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر. قالا: قلنا: إنما قال الله عزّوجل ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) ولم يقل: إفعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه السلام: أوليس قد قال الله عزّوجلّ في الصفا والمروة: ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا )…»(3).
فهما يسألان الإمام عليه السلام أنه لو قال: «إفعلوا» لدلّ على الوجوب، ولم يقل؟ فدلالة الصّيغة على الوجوب من المرتكزات في الأذهان، والإمام عليه السلام لم ينف هذا الإرتكاز العقلائي، بل أمضاه بسكوته.
فالرواية تدل على المدّعى بوضوح، وطريق الشيخ الصّدوق إلى زرارة صحيح.
(1) أجود التقريرات 1/144، محاضرات في أصول الفقه 2/131.
(2) منتقى الاصول 1/376.
(3) من لا يحضره الفقيه 1/434 باب الصلاة في السفر.