1 ـ التبادر
بدعوى أنَّ المتبادر والمنسبق إلى الذهن من المشتقّ ، هو عبارة عن الحصّة المتلبّسة والصّورة التلبّسية ، ولا دخل في تبادر هذا المعنى منه لشيء من خارج حاقّ اللّفظ ، وهذا هو علامة الحقيقة .
وتقريب ذلك : أمّا من ناحية الصّغرى ، فلأنّا نرى انسباق هذا المعنى خاصّةً من المشتق ، على جميع المباني في الموضوع له فيه ، من أنّه الحدث لا بشرط ، أو الحدث مع النسبة ، أو الذات مع النسبة ، أو الثلاثة معاً …
ونرى أيضاً انسباقه منه في جميع صور استعمالاته ، كأن يكون مفرداً مثل « ضارب » أو يكون مضافاً إلى لفظ آخر ، في نسبة تامّة مثل « زيد ضارب » أو ناقصة مثل « ضارب زيد » .
فعلى جميع الأقوال ، وفي مختلف التركيبات ، لا يفيد المشتق إلاّ معنىً واحداً ، وهو خصوص المتلبّس ، ولا يتبادر إلى الذهن منه غيره … فيكون هو الموضوع له حقيقةً .
وأمّا من ناحية الكبرى ، فمناط دليليّة التبادر هو : أن انسباق المعنى من اللَّفظ أمر حادث ، فلا يكون بلا علّة ، فإنْ كانت العلّة هي القرينة ، فالمفروض عدمها ، وإن كان الوضع الواقعي ، فالوضع كذلك ليس بعلّة وإلاّ لزم حصول التبادر عند الجاهل بالوضع ، وبعد بطلان كلا الشقين ، ينحصر الأمر بالعلم بالوضع ، ولا فرض آخر .
والحاصل : أنا كلّما غيّرنا موقع استعمال المشتق ، وجدنا تبادر المعنى منه ، بلا فرق ، ممّا يدلّ على عدم استناد الإنسباق إلى أمر خارج من قرينة أو غيرها … وإنما يستند إلى الوضع فقط .
هذا تقريب الإستدلال بالتبادر ، وإنّ مراجعة الكتب اللّغويّة في اللّغات المختلفة لتؤيّد هذا المعنى ، لأن مداليل الهيئات لا تختلف في اللغات ، والمتبادر من « العالم » في سائر اللّغات هو خصوص المتلبّس بالعلم ، وهكذا غيره من المشتقات …
لكنْ لابدَّ من إثبات كون هذا الإنسباق من حاق اللَّفظ ، ولا يتم ذلك إلاّ بدفع شبهتين :
( الشبهة الاولى ) هي : إن المطلوب هو تبادر المعنى وانسباقه من حاقّ اللّفظ ، وذلك علامة الحقيقة ، ولكنه قد ينشأ من الإطلاق ، بمعنى أنه كلّما يستعمل اللّفظ الفلاني خالياً عن القيود يستفاد منه المعنى الفلاني ، أو بمعنى أنّ كثرة استعماله في ذاك المعنى يوجب انسباقه منه ، وهذا هو المستفاد من كلام المحقق صاحب ( الكفاية )(1) ، فلعلّ كثرة استعمال المشتق في المتلبّس هي السبب في انسباق خصوص هذا المعنى منه إلى الذهن ، في كلّ مورد اطلق فيه المشتق .
وإذا جاء إحتمال استناد الإنسباق إلى أمر خارج ، سقط الإستدلال بالتبادر على المدّعى .
وقد أجاب في ( الكفاية ) عن هذه الشّبهة بأنّ استعمال المشتق في الأعمّ ، إن لم يكن أكثر منه في المتلبّس ، فليس بأقل ، فالتبادر هنا من حاقّ اللّفظ لا من الإطلاق ، لأنّ التبادر الإطلاقي إنما هو حيث يكون الإستعمال في أحد المعنيين كثيراً وفي الآخر نادراً .
فوقع في إشكال آخر ، وذلك أن ما اعترف به من كثرة استعمال المشتق في المعنى المجازي ، أي الأعم ، على حدّ استعماله في المعنى الحقيقي ـ إنْ لم يكن أكثر ـ لا يتلائم مع حكمة الوضع المقتضية لاستعمال اللَّفظ في المعنى الحقيقي الموضوع له ، وبالمنافاة بين كثرة المجاز كذلك وبين حكمة الوضع ، يستكشف عدم وجود كثرة استعمال المشتق في الأعم ، بل هي في خصوص المتلبّس ، وحينئذ يعود احتمال استناد التبادر والإنسباق إلى كثرة الإستعمال هذه ، فيرجع الإشكال ويسقط الإستدلال .
فأجاب أوّلا : إن مجرَّد الإستبعاد غير ضائر بالمراد ، أي الوضع لخصوص المتلبّس .
وثانياً : إنما يلزم غلبة المجاز ، لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبّس ، مع أنه بمكان من الإمكان ، فيراد من « جاء الضارب » ـ وقد انقضى عنه الضرب ـ : جاء الذي كان ضارباً قبل مجيئه حال التلبس بالمبدء ، لا حينه بعد الإنقضاء لكي يكون الإستعمال بلحاظ هذا الحال وجعله معنوناً بهذا العنوان فعلا بمجرّد تلبّسه قبل مجيئه ، ضرورة أنه لو كان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ كلا الحالين …
وأفاد الاستاذ دام ظله بعد أن شرح هذا الكلام : بأنه على هذا أيضاً يعود الإشكال ، لأنّه لمّا صار الإستعمال فيما انقضى بلحاظ التلبّس قليلا ، وفي المتلبّس كثيراً ، رجع احتمال كون التبادر والاّنسباق ناشئاً من كثرة الإستعمال في المتلبّس ، ومن هنا ذكر المحققون من المحشّين على ( الكفاية ) من تلامذته أن حاصل كلامه تسجيل الإشكال على نفسه .
وأمّا ماذكره من أنّ كثرة الإستعمالات المجازيّة غير ضائر ، ففيه : إنّه إذا كان اللّفظ يستعمل في معاني مجازية متعددة ، فهذا لا إشكال فيه ولا ينافي حكمة الوضع ، لكنّ كثرة الإستعمال المجازي في مقابل المعنى الحقيقي ، كأنْ يوضع لفظ « الأسد » للحيوان المفترس ثم يستعمل ـ في الأكثر ـ في الرجل الشجاع ، فهذا ينافي حكمة الوضع ، وما نحن فيه من هذا القبيل .
ثم قال الاستاذ :
والتحقيق في المقام : إن التبادر على قسمين : التبادر عند المستعلم ، والتبادر عند أهل اللّسان ، فإن كان المعيار هو القسم الأوّل ، فإن مجرَّد احتمال كونه ناشئاً من كثرة الإستعمال يسقطه عن الإعتبار ، إلاّ أنْ يحصل القطع بعدم دخل كثرة الإستعمال في التبادر ، لكنّ حصول مثل هذا القطع بعيد ، ولو اُريد التمسّك بأصالة عدم استناد التبادر إلى كثرة الإستعمال ، ولازمه كونه مستنداً إلى حاقّ اللّفظ ، كان من الأصل المثبت ، على أنه معارض بأصالة عدم استناده إلى حاقّ اللّفظ .
وأما إن كان المعيار هو التبادر بالمعنى الثاني ، وهو الصحيح ، كما ذكرنا في محلّه ، فالإشكال مندفع ، لسقوط احتمال استناد التبادر عند أهل اللّسان إلى كثرة الإستعمال ، لأنَّ سيرة العقلاء ـ في استكشاف المعاني الحقيقيّة للألفاظ ـ قائمة على الرجوع إلى أهل اللّسان وأخذ المعاني منهم ، فيرجعون إلى استعمالاتهم للَّفظ في الموارد المختلفة والتركيبات المتفاوتة ، فإذا رأوا ثبوت المعنى واطّراده وعدم تغيّره بتغيّر الإستعمالات والحالات ، وأنه هو الذي ينسبق إلى أذهانهم في جميع المقامات ، حصل لهم اليقين باستناد المعنى إلى حاقّ اللّفظ لا إلى شيء آخر .
فحلّ الإشكال يتمّ بأمرين :
أحدهما : أن الحجّة من التبادر ما كان عند أهل اللّسان ، لا ما كان عند المستعلم .
والثاني : إن بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل اللّسان في استكشاف المعاني الحقيقيّة للألفاظ ، لا إلى المستعلمين .
فهذا هو الحلّ للإشكال ، لا ماذكره صاحب ( الكفاية ) ومن تبعه ، فافهم واغتنم .
( الشبهة الثانية ) هي : شبهة الأولويّة العقليّة ، وبيانها : إن الواضع لو كان قد وضع المشتق للأعم ، فإنّ مناط وضعه له هو جهة التلبّس ، إذ لولاه لم يكن وضع ، غاية الأمر هو أن الأخصي يقول بأن الوضع لخصوص المتلبّس ، والأعمي يقول : ذاك أصبح مناطاً والوضع للأعم منه ، إذن ، يكون لصدق المشتق على المتلبّس أولويّة عقليّة بالنسبة إلى الأعم ، ولعلّ هذه الأولويّة هي السّبب في انسباق المتلبّس خاصّةً ، ومعه لا يقين بكونه مستنداً إلى حاقّ اللّفظ ، ليكون حجةً .
قال شيخنا دام ظلّه :
وهذا الإحتمال لا دافع له ، إلاّ بأنْ يقال : بأن المهمّ ـ كما تقدّم ـ هو الرجوع إلى أهل اللّسان ، لا إلى المستعلم ، وإنه ليس في ارتكازات أهل اللّسان مثل هذه الأولويّة العقليّة في دلالات الألفاظ .
فيكون التبادر ناشئاً من حاقّ اللّفظ لا من غيره .
(1) كفاية الاصول : 47 ط مؤسّسة آل البيت عليهم السلام ، ذيل ارتكازية التضاد ، وهو الوجه الثالث من وجوه الإستدلال للقول الأوّل .