نقد نظرية التعهّد
هذا ، وقد ردّ شيخنا الاستاذ في كلتا الدورتين ، وكذا سيّدنا الاستاذ في ( المنتقى ) ـ بعد أنْ كان يوافق عليه من قبل ـ على مبنى الإلتزام والتعهّد ، وأبطلاه بالتفصيل .
أمّا شيخنا فقد ناقش في الأدلّة واحداً واحداً :
فأجاب عن الدليل الأول ـ وهو مساعدة الوجدان ـ بأنّ المستعمل للّفظ في معناه له علم بالوضع ، وله إرادة للمعنى ، وله قصد لتفهيم المخاطب بمراده ، فهذه الامور موجودة عند كلّ مستعمل ، ومنها التزامه باستعمال اللّفظ الخاص عند إرادة معناه الخاص ، ولكن ما الدليل على أن الوضع هو نفس هذا الإلتزام وليس شيئاً آخر غيره ؟
إنه بعد أن سمّى ولده بالحسن مثلا ، يلتزم باستعمال هذا الاسم متى أراد ولده ، ولكن هل هذا الإلتزام هو الوضع أو أنه شيء آخر والإلتزام المزبور من مقارناته ؟
وأجاب عن الدليل الثاني ـ وهو كون الوضع في اللّغة : الجعل ـ بأن الضابط في كون لفظ بمعنى لفظ صحّة استعمال أحدهما في مكان الآخر ، فلنلاحظ هل يمكن استبدال كلمة « الوضع » بكلمة « الجعل » في موارد استعمالها ، كما في قوله تعالى : ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ )(1)ونحو ذلك ؟ هذا أوّلا .
وثانياً : إن « الوضع » يقابله « الرفع » وهما ضدّان ، و « الجعل » يقابله « التقرير » وهما نقيضان … وهذا برهان آخر على اختلاف المعنى .
ومن هنا يظهر أن كلّ مورد جاز فيه استبدال أحدهما بالآخر فهو بالعناية ، …
وممّا يشهد بالمغايرة بحث العلماء في حديث الرفع بأن الرفع يقابل الوضع ، فلِمَ استعمل الرفع واُريد به عدم الجعل ؟
وأجاب عن الدليل الثالث بما حاصله : قبول وجود الإلتزام ، والتسليم بتحقق العلقة بين اللّفظ والمعنى ، ولكنْ لا دليل على أنّ المحصّل لتلك العلقة الوضعية هو الإلتزام بالخصوص لا شيء آخر .
ومن هنا ذكر في ( المحاضرات ) في أدلّة هذا القول : بطلان الأقوال الاخرى ، ومن الواضح أنّ هذا غير تام ، لوجود غير تلك الأقوال في المسألة .
وأمّا السيد الاستاذ(2) فقد قال : إنّ المراد من التعهّد يتصوّر بأنحاء ، فذكر ثلاثة أنحاء وأبطلها ، النحو الأول : أن يراد به التعهّد والبناء على ذكر اللّفظ بمجرّد تصوّر المعنى والإنتقال إليه ، فمتعلَّق التعهّد هو ذكر اللّفظ . والنحو الثاني : أن يراد به التعهّد والبناء على ذكر اللّفظ عند إرادة تفهيم المعنى . والنحو الثالث : أن يراد به التعهد والبناء على تفهيم المعنى باللّفظ عند إرادة تفهيمه ، فيكون متعلَّق التعهّد هو نفس التفهيم لا ذكر اللّفظ .
أقول : والثالث هو ظاهر عبارة ( الدرر ) المتقّدمة ، وعبارة ( المحاضرات ) الذي قال : بأنّه التعهّد بإبراز المعنى باللّفظ عند إرادة تفهيمه .
فأشكل عليه :
أوّلا : بأنّه يستلزم اللغويّة ، لأنّ المفروض أنْ لا مفهم للمعنى إلاّ اللّفظ الخاص ، فالتفهيم به حاصل قهراً ، سواء كان هناك تعهّد أو لم يكن .
وثانياً : بأنّه يستلزم الدور ، لأن التعهّد يتوقف على كون متعلَّقه ـ وهو التفهيم ـ مقدوراً ، والقدرة على تفهيم المعنى بهذا اللّفظ إنما تحصل بالتعهّد ـ بناءً على هذا القول ـ فالقدرة المذكورة متوقّفة على التعهّد ، والتعهّد متوقّف على القدرة .
أقول :
أمّا إشكال اللغوية ، فالظّاهر عدم لغويّة التعهّد ، فصحيحٌ أنْ المفهم للمعنى هو اللّفظ الخاص لا لفظ آخر ، لكنّ متعلّق التعهّد هو إبراز هذا اللّفظ الخاص متى اُريد تفهيم معناه .
وأمّا إشكال الدور ، فقد ذكر شيخنا جوابه بتعدّد متعلّق التعهّد والبناء ، فأحدهما : البناء الكلّي ، وهو التعهّد بنحو القضية الحقيقيّة بأنه كلّما أراد تفهيم المعنى وقصد ذلك أظهر قصد التفهيم باللّفظ الخاص الموضوع لذاك المعنى ، وبهذا البناء يصير اللّفظ مقدمةً لإبراز قصد تفهيم المعنى ، ثم إنه في الإستعمالات الخاصّة يكون ذلك اللّفظ الذي كان مقدمةً بسبب التعهّد الكلّي متعلَّقاً للإرادة المقدميّة والتوصليّة ، وبهذا البيان يندفع إشكال الدور ، فكلّ واضع لابدّ وأنْ يكون عنده إرادة وتعهّد كلّي ، وذلك البناء الكلّي يستتبع البناءات والإرادات الجزئيّة ، إذ له عند كلّ استعمال إرادة جزئيّة .
لكنّه دام بقاه أورد عليه بالنقض : بأنّ الأطفال والمجانين وحتى بعض الحيوانات لهم وضعٌ أيضاً ، ولا تتمشّى من هؤلاء الإرادة والتعهّد الكلّي .
وأورد عليه أيضاً : بأنّ كون كلّ مستعمل واضعاً ـ كما صرّح به في ( المحاضرات ) ـ خلاف العرف واللّغة ، وماذكره من أنّ عنوان « الواضع » ينصرف عن سائر المستعملين إلى المستعمل الأوّل لكونه السّابق ، يخالف مبناه في الإنصراف ، فإنّه لا يرى ـ في جميع بحوثه في الفقه والاصول ـ للإنصراف منشأً إلاّ التشكيك في الصّدق ، فلا تكون الأسبقيّة منشأً له .
هذا ، وفي ( المحاضرات ) في نهاية المطلب :
إن مذهبنا هذا ينحلّ إلى نقطتين ، النقطة الاُولى : إن كلّ متكلّم واضع حقيقة ، وتلك نتيجة ضروريّة لمسلكنا بأن حقيقة الوضع : التعهّد والإلتزام النفساني . النقطة الثانية : إنّ العلقة الوضعيّة مختصة بصورة خاصّة ، وهي ما إذا قصد المتكلّم تفهيم المعنى باللّفظ ، وهي أيضاً نتيجة حتمية للقول بالتعهد ، بل وفي الحقيقة هذه هي النقطة الرئيسية لمسلكنا هذا ، فإنّ عليها يترتب نتائج ستأتي فيما بعد .
قال : وأما ما ربما يتوهّم هنا من أن العلقة الوضعيّة لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني على وجه الاطلاق ، فلا يتبادر شيء من المعاني منها إذا صدرت عن شخص بلا قصد التفهيم ، أو عن شخص بلا شعور واختيار ، مع أنّه لا شبهة في تبادر المعنى منها .
فأجاب : بأن هذا التبادر غير مستند إلى العلقة الوضعية ، بل إنما هو من جهة الانس الحاصل بينهما بكثرة الإستعمال أو بغيرها(3) .
أقول :
أمّا النقطة الاولى ، فقد عرفت مافيها من كلام شيخنا .
وأمّا النقطة الثانية ، فيظهر مافيها من كلامه أيضاً ، مضافاً إلى أنّ دعوى كون الإنتقال من اللّفظ إلى معناه عند سماعه ـ حتى من الأطفال والمجانين الذين لا يقصدون التفهيم ـ إنما هو على أثر الأُنس الحاصل بين اللّفظ والمعنى بكثرة الإستعمال أو غيرها أوّل الكلام .
وتلخّص :
أنه لا دليل على هذا القول ، بل الدليل على خلافه .
(1) سورة آل عمران : 36 .
(2) منتقى الاصول 1/61 .
(3) محاضرات في علم الاصول 1/51 .