المحقق العراقي
والمحقّق العراقي ذهب إلى أنّ الوضع عبارة عن : نحو إضافة واختصاص خاص يوجب قالبيّة اللّفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي ، بحيث يصير اللّفظ مغفولا عنه وبإلقائه كأنّ المعنى هو الملقى ، بلا توسيط أمر في البين ، قال : ومن جهة شدّة العلاقة والإرتباط بين اللّفظ والمعنى وفناء الأول في الثاني ترى سراية التعقيد من اللّفظ إلى المعنى ، وسراية الحسن والقبح من المعنى إلى اللّفظ .
وأورد عليه في ( المحاضرات ) بما حاصله : إنّ هذه الملازمة المجعولة إمّا هي مطلقة للعالم والجاهل بها ، أو أنها مختصّة بالعالم بها ، فإن كانت مطلقة لزم أنْ يدركها الجاهل باللغة أيضاً ، وإنْ كانت لخصوص العالم بالوضع ، فإنّ العلم بالوضع متأخر عن الوضع ، فجعل العلقة الوضعيّة للعالم بها محال ، بل لابدّ من أن يتحقق الوضع ، ثم يحصل العلم به ، ثم تجعل الملازمة لخصوص العالم .
وأجاب شيخنا دام ظلّه : بأنّ هذا الإيراد بعد الدقّة في كلام العراقي غير وارد ، لأنّه يرى أن الجعل هنا هو كسائر المجعولات الأدبيّة ، فكما أن الجاعل يضع المرفوعية للفاعل والمنصوبيّة للمفعول ، كذلك يجعل اللّفظ مبرزاً للمعنى ، وعلى هذا ، فكما أنّ القواعد في العلوم الأدبيّة قابلة لتعلّق العلم والجهل فكذا الإختصاص الوضعي بين اللّفظ والمعنى ، وكما لا معنى للسؤال عن أن تلك القواعد مجعولة لمطلق الناس أو لخصوص العالمين ، فكذلك اختصاص اللّفظ بالمعنى ، وعلى الجملة ، فإنّ هنا إعتباراً خاصّاً بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى ، بغضّ النظر عن العلم والجهل . هذا أوّلا .
وثانياً : إن حلّ المطلب أنّه لا مانع من القول بكون المجعول في باب الوضع هو : اختصاص اللّفظ بالمعنى من باب الملازمة ، بأن تكون هذه الملازمة نظير الملازمات الخارجيّة ، كالتي بين النار والحرارة ، فإنها موجودة سواء علم بها أولا ، وهنا يجعل الجاعل الملازمة بين اللّفظ والمعنى ، وهو جعل مهمل بالنسبة إلى العالم والجاهل ، والسرّ في ذلك هو : إن الاهمال ليس بغير معقول على الإطلاق ، بل كلّ انقسام كان من خصوصيّات نفس الجاعل فالإهمال فيه غير معقول ، مثلا : الرقبة تنقسم إلى المؤمنة والكافرة واعتبار وجوب العتق تعود كيفيّته إلى المعتبر ، فتارةً يجعله مع لحاظ الرقبة لا بشرط من الخصوصيّتين واخرى يجعله بشرط ، فهنا الإهمال غير معقول ، لأنّ المجعول المنقسم موضوعه إلى قسمين مثلا لابدّ وأن يلحظ في مرحلة الجعل . لكن هذه القاعدة ليست مطّردة في جميع الموارد ، فالماهيّات مثلا بالنسبة إلى الوجود والعدم لا هي مطلقة ، ولا هي مشروطة ، بل الماهيّة بالنسبة إلى الوجود مهملة .
وعلى الجملة ، فإن الجاعل للملازمة يعتبر تلك الملازمة ـ الثابتة بين اللوازم وملزوماتها ـ بين اللّفظ والمعنى ، وهذا الشيء المعتبر تارة يكون معلوماً واخرى مجهولا .
فما ذكره في المحاضرات غير وارد على المحقق العراقي ، عند شيخنا الاستاذ ، وكذا عند سيدنا الاستاذ ، لكنْ ببيان آخر ، فراجع ( المنتقى ) .
وأورد شيخنا دام بقاه في الدورة السابقة ـ التي حضرناها بأنّ عمليّة الوضع من الامور المألوفة عند كلّ فرد ، فإن الشخص عندما يضع اسماً على ولده ، فإنّه لا يعتبر هذا الاسم ملازماً لذات الولد ، بل إنها ـ أي الملازمة ـ لا تخطر بباله أبداً ، غير أن أثر هذه التسمية هو تبادر المسمّى إلى ذهن السّامع عند سماع الاسم بعد العلم بالتّسمية ، فتكون الملازمة حينئذ موجودة لكنها غير مقصودة لاللواضع ولا لغيره .
ثم عدل عن هذا الإشكال في الدورة المتأخّرة بعد التأمّل في كلام المحقق العراقي في ( المقالات ) تحت عنوان « إيقاظ فيه إرشاد » فذكر أنّه وإنْ تكرّرت كلمة « الملازمة » في كلامه ، إلاّ أنه قد أوضح تحت العنوان المزبور أنّ حقيقة الوضع : تعلّق الإرادة بنحو اختصاص ، وبهذا النحو من الإختصاص تتم مبرزيّة اللّفظ للمعنى وقالبيّته له ، فالمعتبر عنده هو هذه المبرزيّة لا الملازمة بين اللّفظ والمعنى . إذن : فالإعتبار متعلِّق بجعل اللّفظ مبرزاً للمعنى لا بالملازمة ، ثم قال : والقائل بالتعهّد إنْ كان مراده هذا فنعم الوفاق(1) .
لكنّه أورد عليه في كلتا الدورتين في قوله بأنّ هذا الإختصاص بعد تحقّقه بالإعتبار يصبح مستغنياً عن الإعتبار وتكون له واقعيّة وخارجيّة . بعدم معقوليّة حصول الخارجيّة للشيء المعتبر بعد اعتباره ، بحيث لا يزول بزوال الاعتبار أو باعتبار العدم ، لأنّه يعني الانقلاب ، وهو محال .
أقول :
وقد دافع السيد الاستاذ في ( المنتقى )(2) عن نظريّة المحقق العراقي ، في قبال ما جاء في ( المحاضرات ) ، وقد اشتمل كلامه على الإلتزام بالأمرين ، أعني :
أوّلا : إن المجعول في نظر المحقق العراقي هو « الملازمة » .
وثانياً : إن ما يتعلق به الإعتبار يتحقق له واقع ويتقرّر له ثبوت واقعي كسائر الامور الواقعيّة .
وقال في آخر كلامه : إن هذه الدعوى لا محذور فيها ثبوتاً ولا إثباتاً .
أقول :
لكنّي أجد اضطراباً في كلامه فيما يرتبط بالأمر الثاني ـ ولابدّ وأنه من المقرر رحمه الله ـ وذلك لأنّه في أوّل البحث يقول ما لفظه : « إن الإنصاف يقضي بأن نظر المحقق العراقي يمكن أن يكون إلى جهة اخرى ، وهي أن الوضع أمر اعتباري إلاّ أنّه يختلف عن الامور الإعتبارية الاخرى بأنّ ما تعلّق به الإعتبار يتحقق له واقع ويتقرّر له ثبوت واقعي ، كسائر الامور الواقعيّة ، فهو يختلف عن الامور الواقعيّة ، من جهة أنه عبارة عن جعل العلقة واعتبارها ، ويختلف عن الامور الإعتبارية ، بأن ما يتعلّق به الإعتبار لا ينحصر وجوده بعالم الإعتبار ، بل يثبت له واقع في الخارج .
ويقول في أثناء البحث ما نصّه : « فالمدعى : إن الجاعل اعتبر مفهوم الملازمة والعلقة بين اللّفظ والمعنى ، وقد نشأ من اعتبار هذه الملازمة ملازمة حقيقية واقعية بين طبيعي اللّفظ وطبيعي المعنى ، بلحاظ أن ذلك الإعتبار أوجب عدم انفكاك العلم بالمعنى وتصوّره عن العلم باللّفظ وتصوره ، وتلازم الانتقال إلى المعنى مع الانتقال إلى اللّفظ ، وهذا يعني حدوث ملازمة واقعية بين اللّفظ والمعنى … » .
فكم فرق بين العبارتين ؟
إنه على الأولى يتوجّه إشكال شيخنا الاستاذ ، أمّا على الثانية فلا ، بل يكون الوضع حاله حال التبادر ، كما تقدّم في كلام شيخنا .
ويبقى الإشكال على المحقق العراقي والسيد الاستاذ في تعلّق الجعل بالملازمة ، بل إنّ هذا الإشكال يقوى بناءً على العبارة الثانية من أن تلك العلقة الواقعيّة تنشأ من العلقة الإعتبارية ، لوضوح أنّها حينئذ غير مقصودة للواضع ، ولا مستندة إليه ، فكيف تكون الملازمة من فعله ؟
(1) مقالات الاصول 1/47 .
(2) منتقى الاصول 1/47 .