مناقشة الاستاذ
وقد تكلّم شيخنا الاستاذ على ما أفاده السيّد الخوئي في ( تعليقة أجود التقريرات ) وفي ( المحاضرات ) ، في هذه المسألة ، بالتفصيل ، وكان العمدة في إفاداته دام ظلّه هو النظر في رأيه ، والتحقيق في رأي المشهور .
أمّا رأي المشهور ، فالمنسوب إليهم هو أنّ الجملة الخبريّة موضوعة لثبوت النسبة أو نفيها ، وهذا موجود في كلمات بعضهم ، لكنّ الذي نسبه إليهم المحقق الإصفهاني في كتاب ( الاصول على النهج الحديث ) هو أنّ مدلول الجملة هو الحكاية ، ولم ينسب إليهم كونه النسبة ، وقال الشريف الجرجاني في بعض ( حواشيه )(1) في باب النسبة الإنشائية والإخبارية : إن النسب الكلاميّة حاكية عن النسب الذهنيّة ، فيظهر من كلامه إن هناك نسبة ذهنيّة ونسبة خارجيّة ، وهو لا يقول بأن الجملة موضوعة لثبوت النسبة خارجاً .
على أن المحققين يصرّحون بأنّ الوضع هو للإنتقال ، أي : الألفاظ موضوعة لانتقال المعاني بها إلى الذهن ، والثبوت لا يقبل الدخول في الذهن .
فما نسب إلى المشهور في المقام مسامحة ، بل الألفاظ موضوعه للصّور الذهنيّة ، سواء الجمل أو المفردات ، وأما متن الخارج الذي هو ظرف الثبوت والوجود فلم يوضع له اللّفظ ، ولا قائل بذلك .
إنّ الألفاظ موضوعة ـ بتعبير المحقق العراقي ـ للصور التي يراها الإنسان خارجاً ، أو بتعبير بعضهم : للصّورة الفانية في الخارج ، وبتعبير ثالث : للصور الموجودة بالوجود التقديري .
وتلخّص : إن الموضوع له الجملة ليس هو ثبوت النسبة ، بل النسبة المتّصفة بالثبوت والعدم ، فإن ثبوت النسبة ونفيها أمر ، والنسبة التي تتّصف بالثبوت في الجملة الموجبة وبالنفي في السّالبة أمر آخر ، وقد وقع الخلط بينهما وهو منشأ الإشكال .
وتحقيق رأي المشهور هنا هو : إنه عندنا حكايتان ، إحداهما : الحكاية الذاتيّة ، والاخرى هي الحكاية الجعليّة ، فالحكاية الذاتيّة تكون في حكاية الصّور الذهنيّة عمّا هو في الخارج ، فالحاكي عن الوجود هو مفهوم الوجود ، والحاكي عن الماهيّات هو نفس الماهيّة الموجودة بالوجود الذهني ، فحكاية مفهوم الوجود عن واقع الوجود حكاية العنوان عن المعنون ، وهي حكاية ذاتيّة ، وحكاية مفهوم الإنسان عن ماهيّة الإنسان الموجود بالوجود الخارجي حكاية ذاتيّة ، سواء قلنا إن نسبة الصّور الذهنيّة إلى الخارج نسبة التمثال والصورة عن ذي الصورة ، أو قلنا بأن الأشياء بذواتها تدخل إلى الذهن لا بصورها وأشباحها ، كما هو مسلك المتأخرين القائلين بأن للأشياء كونين : كون عند الأذهان وكون في الأعيان .
وبالجملة ، فحكاية الصّور الذهنيّة عمّا في الخارج حكاية ذاتيّة ، ثم لمّا نقول : زيد في الدار ، يكون في الذهن نفس ما في الخارج ، أو صورة مطابقةٌ لما في الخارج ، وما في الذهن انعكاس لما في الخارج ، وألفاظ هذه الجملة موضوعة لنقل هذا الذي في ذهن المتكلّم إلى ذهن المخاطب ، وهذا هو التفهيم والتفاهم بواسطة الألفاظ ، الذي هو الحكمة من الوضع .
وعليه ، فكما أنّ مدلول لفظ « زيد » هو ذات الشخص ، ومدلول لفظ «الدار» هو ذاتها ، ومدلول « في » هو النسبة بينهما ، فإن مدلول الجملة عبارة عن الوجود المفهومي المتحقق في مورد هذه القضية ، وليس المدلول هو الوجود الخارجي ، لما تقدّم من أنه لا يقبل الدخول إلى الذهن .
(1) الحاشية على شرح المطول : 43 ط تركيا.