مناقشة الاستاذ
قال : لقد قسّم المحقق الإصفهاني في ( نهاية الدراية ) النسبة إلى ثلاثة أقسام : الأول : النسبة التي تكون في القضايا التي هي مفاد هل البسيطة ، والثاني : النسبة التي تكون في القضايا التي هي مفاد هل المركّبة ، قال : وهذا هو الوجود الرابط ، ومنه يظهر أن الوجود الرابط ليس عين النسبة كما جاء في كلمات بعضهم . والثالث : النسبة التي تكون من لوازم ومقوّمات الأعراض النسبيّة ، مثل مقولة الأين التي مقوّمها النسبة التي بين زيد والدار ، وهو يرى وجود هذه النسبة في الخارج .
فموطن الوجود الرابط هو القضايا والعقود والموجبات الحمليّة المركّبة .
فظهر أن للنسبة أنحاء ثلاثة ، منها : ما يوجد في الذهن ، وهو النسبة في جواب هل البسيطة ، ومنها : ما يوجد في الخارج وهو المقوّم للأعراض النسبيّة ، ومنها : ما يكون بالإعتبار ، وهو الوجود الرابط ، وهو ما يقال في جواب هل المركّبة ، فوجود الوجودات الثلاثة : الجوهر والعرض والنسبة ، إنما هو في نحوين من الأنحاء الثلاثة ، مع الفرق في موطن الوجود فيهما ، ففي أحدهما هو الذهن ، وهو ما يقال في جواب هل البسيطة ، وفي الآخر هو الخارج ، وهو الذي في الأعراض النسبية .
ثم نقول : هل للوجود الرابط ماهيّة أو لا ؟
يقول المستشكل : لا ماهيّة له .
وفيه : إن الوجود الرابط وجود إمكاني ، والوجود الإمكاني يستحيل أن ينفكَّ عن الحدّ ، وإذا استحال انفكاكه عن الحدّ استحال انفكاكه عن الماهيّة .
لكن المهمّ هو : إن الوجود الرابط كما أنّه متقوّم بالغير وجوداً ولا استقلال له في الوجود ، كذلك هو غير مستقل في حدّ ذاته ، فالوجود الرابط ذات غير مستقلّة ، ماهيّة غير مستقلّة ، فله ذات وماهيّة ، لكنْ بلا استقلال ، وفي كلمات القوم إشارة إلى هذا أيضاً ، وكلام المحقق الإصفهاني في مواضع عديدة من كتابه يثبت هذا الذي ذكرناه :
يقول في ( نهاية الدراية ) رادّاً على صاحب ( الكفاية ) : « المعنى الحرفي ـ كأنحاء النسب والروابط ـ لا يوجد في الخارج إلاّ على نحو واحد ، وهو الوجود لا في نفسه ، ولا يعقل أنْ يوجد معنى النسبة في الخارج بوجود نفسي ، فإن القابل لهذا النحو من الوجود ما كان له ماهيّة تامة ملحوظة في العقل ، كالجواهر والأعراض »(1) .
فهذا الكلام صريح في أن النسبة موجودة بالوجود الرابط ، فلو كانت النسبة نفس الوجود الرابط ، فنفس الوجود غير قابل لأنْ يوجد ، فالمعنى الحرفي معنى قابل لأن يوجد لكنْ لا بالوجود النفسي ، والوجه في ذلك : إن ما يقبل الوجود النفسي هو ما يقبل الماهية التامة .
فهو رحمه الله ينفي الماهيّة التامّة ويثبت الماهيّة الناقصة ، والمراد من الماهيّة الناقصة هو الماهيّة المتقوّمة بالطرفين .
ويقول : « والصحيح تنظيرهما بالوجود المحمولي والوجود الرابط » .
فهو جعل المعنى الاسمي نظير الوجود المحمولي ، والمعنى الحرفي نظير الوجود الرابط ، فلو كان المعنى الحرفي نفس الوجود الرابط فما معنى تنظيره به .
ويقول : « مع أن من البديهي أن حقيقة النسبة لا توجد في الخارج إلاّ بتبع وجود المنتسبين من دون نفسيّة واستقلال أصلا ، فهي متقوّمة في ذاتها بالمنتسبين لا في وجودها فقط » .
فمن هذا الكلام أيضاً يظهر أن النسبة ليست الوجود وإلاّ فلا معنى لقوله : في ذاتها ، لا في وجودها فقط .
ويقول : « وأما حقيقة المعنى الحرفي والمفهوم الأدوي فهو ما كان في حدّ ذاته غير استقلالي بأيّ وجود فرض » .
أي : الذات ـ سواء فرضت بالوجود الذهني أو الخارجي ـ غير استقلاليّة ، وقد تصوّر المستشكل أن معنى الحرف منحصر بالوجود والوجود غير مستقل ، وبين هذا وكلام المحقّق الإصفهاني فرق كبير .
وتلخّص : إن معنى الحرف ذات غير مستقلّة في وجودها ، سواء في وعاء الذهن أو وعاء الخارج ، والمستشكل تصوّر أن المعنى هو الوجود غير المستقل ذهناً وخارجاً .
ثم إن المحقّق الإصفهاني ملتفت إلى الإشكال بأن الإلتزام بكون وضع الحروف للنسب يتنافى مع المبنى ، وهو أن الألفاظ غير موضوعة للوجودات ، ولذا يقول في كتاب ( الاصول على النهج الحديث ) : « ولا يخفى عليك : إن ماذكرنا في حقيقة المعنى الحرفي لا ينافي ما قدّمناه في الوضع ، من أن طرفي العلقة الوضعيّة طبيعيّ اللّفظ وطبيعيّ المعنى ، فإن المراد هناك عدم دخل الوجود العيني والوجود الذهني في الموضوع وفي الموضوع له ، وإنْ كان الموضوع له ماهيّة شخصيّة كما في الأعلام » .
أي : لا يتوهّم أن ألفاظ الحروف إن كانت موضوعة للنسب ، فهو ينافي المبنى في وضع الألفاظ . قال : « فالنسبة الحقيقيّة وإنْ كانت متقوّمة بطرفيها الموجودين عيناً أو ذهناً ، إلاّ أن الموضوع له ذات تلك النسبة المتقوّمة بهما ، من دون دخل لوجود طرفيها في كونها طرفاً للعلقة الوضعيّة ، وإنْ كان لهما دخل في ثبوتها … »(2) .
وتلخّص :
إن معاني الحروف ليس هو الوجود الرابط ، بل الموجود بالوجود الرابط ، وقد وقع الخلط بينهما في كلمات المستشكل ، واتّضح بطلان القول بأن الوجود الرابط لا ماهيّة له ولا ذات .
بل للحرف ماهيّة ، لكنها ناقصة ، بمعنى أنها متقوّمة بالطرفين ، فلا تكون قابلة للإحضار في الذهن إلاّ مع الطرفين .
إن الذي يدخل الذهن هو الماهيّة وليس الوجود ، إذ الوجود إما ذهني أو خارجي ، فدخول الوجود الذهني يستلزم اجتماع المثلين ، ودخول الوجود الخارجي يستلزم اجتماع المتقابلين ، فالوجود غير قابل لدخول الذهن ، وهذا ما صار سبباً للإشكال المتقدم ، إذ جعل المعنى الحرفي الوجود الرابط ، فوقع الإشكال .
إن الذي يدخل في الذهن هو الماهيّة ، والماهيّة تارة تكون بحيث تدخل بنفسها ، وتارة تدخل مع غيرها ، فالنسبة بين زيد والدار ، وكونه فيها المدلول بلفظ « في » هذا المعنى ليس هو الوجود بالوجدان ، لكن دخوله في الذهن لا يكون إلاّ بوجود زيد والدار معه .
فهذا هو مطلب القوم ، والإشكال المذكور غير وارد عليه .
(1) نهاية الدراية 1/51 ـ 52 ط مؤسّسة آل البيت عليهم السلام .
(2) الاصول على النهج الحديث (بحوث في الاصول) : 26 ط جامعة المدرّسين.