مناقشة الاستاذ
قال شيخنا دام بقاه : إن هذا الإشكال ناشيء من عدم ملاحظة كلمات أهل الفن .
إن كان المقصود أنهم يقولون بأنّ هناك في الخارج للعرض وجوداً غير وجوده للجوهر ـ كما في كلمات البعض ـ فالإشكال وارد ، لكنّ أعيان أهل الفن لا يقولون مثل هذا الكلام ، ولا حاجة لنقل كلماتهم بالتفصيل ، وإنما نقتصر على كلمتين من ( الأسفار ) ، ففي مبحث الوجود الرابط ، في الردّ على المحقق الدواني يقول : « فإن الأسود في قولنا : الجسم أسود ، من حيث كونه وقع محمولا في الهليّة المركبة ، لا وجود له إلاّ بمعنى كونه ثبوتاً للجسم ، وهذا ممّا لا يأبى أن يكون للأسود باعتبار آخر غير اعتبار كونه محمولا في الهليّة المركبة وجود ، وإنْ كان وجوده الثابت في نفسه هو بعينه وجوده للجسم »(1) .
يعني : إنه ليس في الخارج إلاّ وجود واحد ، ولكنّ هذا الوجود الواحد يتعدّد بالإعتبار ، وهذا الإعتبار الذي يسبب التعدّد يكون في قضيّتين نحن نشكّلهما .
إحداهما : قضيّة هل البسيطة التي يُسئل فيها عن وجود البياض ، فهذا اعتبارٌ ، ويقال في الجواب : البياض موجود .
والثانية : قضيّة هل المركّبة ، حيث يُسئل فيها عن ثبوت البياض للجدار ويقال مثلا : هل الجدار أبيض ؟ فهنا قد جعلنا الوجود محمولا ، فنقول في الجواب : الجدار موجود له البياض .
فالتعدّد إنما جاء من ناحية الإعتبار ، وإلاّ ففي الخارج ليس إلاّ وجود واحد ، هذا الوجود الواحد الذي كان قابلا لأن يكون باعتبار منّا محمولا على ماهيّة العرض ، كما في قولنا : البياض موجود ، ولأن يكون باعتبار منّا رابطاً في القضيّة التي نشكّلها نحن ونقول : الجدار موجود له البياض ، ولأن يقع مفاداً لأحد الأفعال الناقصة ، كأن نقول : الجدار كان له البياض ، أو يكون له البياض . وهكذا .
وفي ( الأسفار ) في فصل قبل الموادّ الثلاث يقول :
« وأمّا الوجود الرابطي الذي هو احدى الرابطتين في الهليّة المركّبة ، فنفس مفهومه يباين وجود الشيء في نفسه . وفي قولنا : « البياض موجود في الجسم » اعتباران ، اعتبار تحقّق البياض في نفسه وإنْ كان في الجسم ، وهو بذلك الإعتبار محمول بهل البسيطة ، والآخر إنه هو بعينه في الجسم ، وهذا مفهوم آخر غير تحقّق البياض في نفسه ، وإنْ كان هو بعينه تحقّق البياض في نفسه ملحوظاً بهذه الحيثية ، وإنما يصح أن يكون محمولا في هل المركّبة »(2).
وفي هذا الكلام أيضاً تصريح بما تقدَّم ، فإنه يقول بأن الوجود الرابط يكون في الهليّة المركّبة . والهليّة المركّبة ليست في الخارج .
وعلى الجملة ، فإن المستشكل لو لاحظ هذه الكلمات وتأمّل فيها لما أشكل بما ذكر .
وكذلك كلمات المحقق اللاّهيجي ، الصريحة في أن الوجود الرابط إنما هو في التصديقات المركبة الإيجابيّة ، فموطن الوجود الرابط لا علاقة له بالخارج … فإنّه ليس الكلام عن تعدّد الوجود في الخارج ، نعم صرّح بذلك بعضهم ، لكن هؤلاء ليسوا ممّن يعتمد على كلامهم في الفلسفة .
وتحصل :
إن الوجود الرابط في القضايا والنسب الموجودة في القضايا هو مدلول الحرف .
فالإشكال مندفع .
وبعد :
فلو فرضنا عدم وجود الوجود الرابط في عالَم من العوالم أصلا ، فهل ينهدم بذلك أساس هذه النظريّة ، أعني نظريّة كون الحروف موضوعةً للنسب ؟
كلاّ …
إنما كان ينهدم لو قال المحقق الإصفهاني بأنّ معاني الحروف هي النسب ، والنسب ليست إلاّ الوجود الرابط . لكن هذا المحقق وغيره يقولون بأنّ الوجود الرابط أحد أقسام النسبة ، وإنّه يتحقق في الهليّة المركّبة فقط ، فلو افترضنا أن الوجود الرابط غير موجود أصلا ، فإن انتفاء وجوده لا يستلزم انتفاء النسبة .
لقد صرّح في ( الأسفار ) بأن الوجود الرابط غير متحقق في تمام العقود . والحال أنَّ النسبة متحققة في تمام العقود . وعلى هذا ، فالنسبة بين « الوجود الرابط » وبين « النسبة » هي العموم والخصوص المطلق .
وكذا صرّح المحقق السبزواري في ( حاشية الأسفار ) حيث قال : « الوجود الرابط إنما يكون في القضايا الموجبة المركبة فقط ، وليس متحقّقاً في كلّ القضايا » .
فظهر سقوط الإشكال المتقدّم .
* وأمّا الإشكالان الآخران ، فقد تكلَّم عليهما الاستاذ في الدورة اللاّحقة ، وأجاب عنهما كذلك ، إلاّ أنه فصّل الكلام على الأول منهما ، وهذه خلاصة ما أفاده دام بقاه :
(1) الأسفار 1/331 ط مكتبة المصطفوي.
(2) الأسفار 1/81 ط مكتبة المصطفوي.