مناقشات الشيخ الاستاذ
وذكر شيخنا الاستاذ على هذا القول إشكالات ، فقال :
1 ـ أمّا قوله : إن حقيقة النسبة ليست إلاّ قيام احدى المقولات التسع بموضوعاتها ، فإن معناه انحصار النسبة بين المقولات العرضيّة ، ويلزم منه انكارها في مثل « شريك الباري ممتنع » لعدم وجود المقولة فيه ، ولا يخفى مافيه .
2 ـ وأمّا قوله بأنّ جميع الحروف إيجاديّة ، وليس فيها جهة الحكاية أصلا ، إذ ليس لها ما وراء كي تحكي عنه ، فما معنى الصّدق والكذب في مثل : زيد على السطح ، عمرو في الدار … ؟
أجاب رحمه الله : بأنّ مناط الصّدق والكذب هو وجود وعدم وجود المطابق .
وفيه : إن موضوع الصّدق والكذب هو الخبر ، وحيث لا يكون خبرٌ فلا يكون صدق وكذبٌ ، ولازم كلامه انتفاء الخبر في مثل زيد في الدار ، لأن الخبر إن كان له مطابَق فهو صدق وإلاّ فهو كذب . وتوضيح ذلك : إن في الجملة الخبرية مسلكين : أحدهما : إنّها تدل على ثبوت أو عدم ثبوت النسبة ، وهذا هو المشهور ـ وربّما ادّعي عليه الإتفاق كما عن التفتازاني ـ والآخر : إن الجملة الخبرية دالّة على قصد الحكاية . وسوف نوضح الفرق بين المسلكين في مسألة الإنشاء والإخبار .
وكيف كان ، فإن قوام الإخبار هو الإعلام والإنباء ، قال تعالى : ( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ )(1) فإذا لم يكن هناك منبأ عنه ، ومدلول ، ومحكي ، فلا موضوع للإعلام والإنباء والإخبار … وهذا هو المهمّ ، وإذا كان شأن الحروف هو الربط وأنه ليس للحروف ما وراء ، فعن أيّ شيء يخبر وينبئ … والعجيب أنه قد ناقض نفسه في ضمن كلامه ، عندما ذكر انقسام الألفاظ إلى المستقل وغير المستقل ، وغير المستقل إلى قسمين ، حيث عبَّر عن بعض الهيئات والحروف بأنّها تفيد كذا وتدل على كذا ، فإذا لم يكن للحروف معنىً مطلقاً ، فما معنى الإفادة والدلالة ؟
3 ـ وأمّا قوله بأنّ النسبة بين المعنى الاسمي والحروف نسبة المفهوم إلى المصداق ، فغير صحيح ، لأن المصداق والمفهوم لا اختلاف بينهما إلاّ في الوجود ، وإلاّ فالذات واحدة ، كزيد والإنسان ، فكلاهما حيوان ناطق والنسبة نسبة الكلّي والفرد ، فالنسبة المذكورة تختص في وحدة الذات ، ولا تجتمع مع الإختلاف الذاتي بين مفهوم الاسم ومفهوم الحرف ، كما هو الحق الذي اختاره في مقابل مبنى صاحب ( الكفاية ) ، بل على هذا المبنى تكون النسبة هي النسبة بين العنوان والمعنون ، كمفهوم الوجود والمصاديق الخارجيّة للوجود .
4 ـ وأمّا قوله بأن المعنى الحرفي فان في مقام الإستعمال وغير ملحوظ أصلا . ففيه : أنه خلاف الوجدان ، فقد يكون تمام النظر في مورد إلى إفادة معنى حرف من الحروف ، كلفظة «من » في « سرت من البصرة إلى الكوفة » . وهذا الإشكال من المحقق الخوئي في ( حاشية أجود التقريرات ) .
5 ـ إنه لا ريب في أن الحروف موجدة للربط بين المفاهيم الاسميّة ، فالسير بما له من المفهوم مغاير للبصرة بما له من المفهوم ، لكنّها بدلالتها على معانيها توجد الربط ، لا أنها توجده من غير أنْ تدل على معنى .
وعلى الجملة ، فإن دعواه بأنّ الحروف إيجاديّة فقط ، دعوى بلا دليل ، بل الدليل قائم على بطلانها . أمّا وجداناً ، فلأن قولنا زيد في الدار ، يشتمل على « زيد » الحاكي عن الجوهر وهو المكين ، وعلى « الدار » الحاكي عن الجوهر وهو المكان ، وعلى « في » المفيد للظرفيّة الحاكي عن الربط ، فكلّ من الاسمين يفيد معناه الخاص ، و « في » يفيد الربط بينهما ، ولولا هذا الحرف لما انتقل إلى الذهن الربط بين الاسمين المذكورين . وأمّا برهاناً ، فلأن حكمة الوضع التي اقتضت أنْ يفاد معنى « زيد » بهذا اللّفظ ، ومعنى « الدار » بهذا اللّفظ ، كذلك هي تقتضي إفادة النسبة والربط بينهما بحاك ، إذْ لا وجه لأنْ يكون لذينك المعنيين حاك ولا يكون هناك حاك عن معنى الربط ، فلا محالة ، توجد في الأسماء والحروف جهة الحكاية ، غير أنّ الأسماء تحكي عن معان مستقلّة ، والحروف تحكي عن معان غير مستقلّة وهذا هو الفرق .
فالأسماء والحروف مشتركة في الإخطاريّة والحكايّة ، والإختلاف في الإستقلال وعدم الإستقلال .
(1) سورة الحجرات : 6.