رأي المحقق الإصفهاني
وذهب المحقق الإصفهاني إلى أن حقيقة الإنشاء والإخبار هو إيجاد الأمر النسبي بالوجود اللّفظي ، فإن كان له ما وراء وقصد الحكاية عنه باللّفظ فهو خبر ، وإنْ لم يكن له ما وراء حتى يكون اللّفظ حاكياً عنه فهو إنشاء .
فالفرق بين قوله وقول المشهور هو : إنهم يقولون : في الإنشاء نوجد المعنى باللّفظ ، فاللّفظ علّة لوجوده ، فهيئة « بعت » موجدة للبيع والملكية في عالم الإعتبار ، وهو يقول : إنه يكون للمعنى وجود مجازي باللّفظ ، لا أن المعنى يوجد بسبب اللّفظ ، فإن كان هذا الموجود المجازي الجعلي له ما وراء قصد الحكاية عنه فهو خبر ، وإلاّ فهو إنشاء . وبهذا يظهر الفرق بين « بعت » إنشاءً وإخباراً ، وأن التقابل بين الإنشاء والإيجاد تقابل العدم والملكة أو السلب والإيجاب .
وهذا رأيه الذي اختاره فقهاً واصولا ، تعرّض له في باب الطلب والإرادة(1) ، وفي ( تعليقة المكاسب )(2) .
وعمدة الكلام هو في حقيقة الإنشاء ، وإليك توضيح مذهبه فيه :
إن ما ذهب إليه المشهور في حقيقة الإنشاء مردود بأنّ الوجود إمّا تكويني وإمّا إعتباري ، والتكويني إما خارجي وإما ذهني ، فالإعتباري الجعلي يتبع الجعل والإعتبار كما هو واضح ، والتكويني يتحقق على أثر علله الواقعيّة ، والإعتباري على قسمين : الوجود الكتبي والوجود اللّفظي .
مثلا : قولنا : « اكتب » يشتمل على نسبة ، توجد هذه النسبة تارةً في الخارج بتحريك العبد نحو الكتابة ، فتكون النسبة خارجيةً بين الكاتب والكتابة ، وقد توجد هذه النسبة في الذهن فتكون وجوداً ذهنيّاً ، وقد تلفظ الجملة فتأخذ النسبة وجوداً لفظيّاً ، فإن كتبت كان وجودها وجوداً كتبيّاً .
إذا عرفت هذا ، فمن الواضح أن الألفاظ ليست من مقدّمات الوجود التكويني لشيء من الأشياء ، بل الوجودات التكوينيّة تابعة لعللها كما ذكرنا ، فإنْ اُريد من إيجاد اللّفظ للمعنى الوجود والإيجاد تكويناً ، فهذا باطل ، وإنْ كان المراد منه هو الإيجاد الإعتباري ، أي إيجاد المعنى في عالم الإعتبار ، فإنّ الإعتبار نفسه كاف لتحقق الوجود الإعتباري للشيء ، ولا حاجة إلى توسيط اللّفظ والهيئة ، فالزوجية والملكية ونحوهما امور اعتبارية موجودة بالإعتبار ، ولا عليّة لقولنا : أنكحت ، وزوّجت ، وملّكت ، لوجود الزوجيّة والملكيّة وغيرها في عالم الإعتبار .
فظهر أنْ لا سببيّة للّفظ في تحقّق المعنى ووجوده ، لا إيجاداً تكوينياً ولا إيجاداً اعتبارياً مطلقاً ، فما ذكره المشهور باطل .
نعم ، الذي يمكن تعقّله هو أنّ المعنى يوجد بواسطة اللّفظ بوجود جعلي عرضي ، والجملتان الإخبارية والإنشائية مشتركتان في هذه الجهة ، أي إيجاد المعنى بالوجود العرضي الجعلي ، فإذا قلنا : زيد قائم ، أوجدنا النسبة بين القيام وزيد ، لكن بالوجود العرضي لا بالوجود الخارجي الحقيقي ، فإنّه يتبع علله التكوينيّة المعيّنة ، ففي كلتا الجملتين يتحقق إيجادٌ للمعنى بوجود اللّفظ لا بسببيّة اللّفظ ، فوجود اللّفظ وجود جعلي عرضي للمعنى .
وتختلف الإخبارية عن الإنشائية في إضافة جهة الحكاية في الاولى دون الثانية ، فإذا وجد المعنى بالوجود اللّفظي ـ من غير تسبّب للّفظ ـ ولم يكن في البين حكاية فهو إنشاء ، وإنْ كان هناك حكاية فهو إخبار ، ويكون التقابل بينهما تارةً : تقابل العدم والملكة ، كما في هيئة « بعت » فإنّها قابلة لأن تكون إخباراً فإنْ لم تكن فهي إنشاء . واخرى : تقابل السلب والإيجاب مثل « إضرب » و « أطلب منك الضرب » خبراً ، حيث أنّ « إضرب » غير قابلة لإفادة معنى « أطلب منك الضرب » إخباراً ، لكنّ هذه الجملة تفيد مفاد « إضرب » إن قصد بها الإنشاء .
فبطل قول المشهور في حقيقة الإنشاء من أنه إيجاد للمعنى بسبب اللّفظ ، وأنه لابدّ عند إجراء صيغة النكاح مثلا من قصد إيجاد علقة الزوجيّة ، وذلك : لأن هذه العلقة ليست معلولة للّفظ ، بل تتحقّق بالإعتبار فقط .
وبطل قول المحقق الخراساني من أن للطلب وجوداً إنشائياً يتحقق بصيغة إفعل مثلا . وذلك : لأن اللّفظ لا عليّة له لوجود المعنى ، في أيّ وعاء وعالم من العوالم .
(1) رسالة الطب والارادة (بحوث في الاصول) : 14 . ط جامعة المدرّسين.
(2) حاشية المكاسب 1/76 ـ 77 الطبعة الحديثة المحقّقة.