* رأي السيد الخوئي
قال طاب ثراه في تعليقة ( أجود التقريرات ) :
« والتحقيق أن يقال : إن الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسميّة وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها ، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجية ، بل التضييق إنما هو في عالم المفهوميّة وفي نفس المعاني ، كان له وجود في الخارج أو لم يكن ، فمفاهيمها في حدّ ذاتها متعلّقات بغيرها ومتدلّيات بها ، قبال مفاهيم الأسماء التي هي مستقلاّت في أنفسها .
توضيح ذلك : إن كلّ مفهوم اسمي له سعة وإطلاق بالإضافة إلى الحصص التي تحته ، وسواء كان الإطلاق بالقياس إلى الخصوصيات المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة ، أو بالقياس إلى حالات شخص واحد ، ومن الضروري أن غرض المتكلّم كما يتعلّق بإفادة المفهوم على إطلاقه وسعته ، كذلك قد يتعلَّق بإفادة حصّة خاصّة منه ، كما في قولك : الصلاة في المسجد حكمها كذا . وحيث أنّ حصص المعنى الواحد فضلا عن المعاني الكثيرة غير متناهية ، فلابدّ للواضع الحكيم من وضع ما يوجب تخصّص المعنى وتقيّده ، وليس ذلك إلاّ الحروف والهيئات الدالّة على النسب الناقصة ، كهيئات المشتقات ، وهيئة الإضافة أو التوصيف ، فكلمة « في » في قولنا : الصلاة في المسجد ، لا تدل إلاّ على أنّ المراد من الصلاة ليس هي الطبيعة السارية إلى كلّ فرد ، بل خصوص حصّة منها ، سواء كانت تلك الحصّة موجودةً في الخارج أم معدومة ، ممكنة كانت أم ممتنعة ، ومن هنا يكون استعمال الحروف في الممكن والواجب والممتنع على نسق واحد وبلا عناية في شيء منها ، فنقول : ثبوت القيام لزيد ممكن ، وثبوت العلم لله تعالى ضروري ، وثبوت الجهل له تعالى مستحيل . فكلمة « اللاّم » في جميع ذلك يوجب تخصّص مدلوله ، فيحكم عليه بالإمكان مرة ، وبالضرورة اخرى ، وبالإستحالة ثالثة .
فما يستعمل في الحرف ليس إلاّ تضييق المعنى الاسمي ، من دون لحاظ نسبة خارجية ، حتى في الموارد الممكنة ، فضلا عما يستحيل فيه تحقّق نسبته ، كما في الممتنعات وفي أوصاف الواجب تعالى ، ونحوهما »(1) .
هذا ، والأدلّة على هذا المبنى ـ كما في ( المحاضرات ) ـ هي :
أولا : بطلان سائر الأقوال .
وثانياً : إن المعنى المذكور يشترك فيه جميع موارد استعمال الحرف ، من الواجب والممتنع والممكن ، على نسق واحد ، وليس في المعاني ما يكون كذلك .
وثالثاً : إنه نتيجة المختار في حقيقة الواضع ، أي التعهّد ، ضرورة أن المتكلّم إذا قصد تفهيم حصة خاصة فتفهيمه منحصر بواسطة الحرف ونحوه .
ورابعاً : موافقة ذلك للوجدان ، والارتكاز العرفي(2) .
أقول :
لقد أوضح الاستاذ رأي هذا المحقق في الدورة السابقة وقرّبه على البيان التالي :
إن الحروف على قسمين :
القسم الأول ، الحروف التي وزانها وزان الإنشاء .
يعني : كما أن صيغة « بعت » مبرزة لاعتبار الملكية ، و « أنكحت » مبرزة لاعتبار الزوجيّة ، كذلك قسم من الحروف ، فإنها مبرزة ، فمثل « ليت » و « لعلّ » وضعت لإبراز الصفة النفسانية ، وهي التمنّي والترجّي .
والقسم الثاني ، الحروف الموضوعة لتضييق المعاني الاسمية . وكذا الهيئات ، والجمل التامّة ، الاسمية منها كزيد قائم ، والفعليّة منها كقام زيد ، والجمل الناقصة كغلام زيد ، فهذه كلّها موضوعة لإفادة التضييق .
وتوضيحه : إنه قد تتعلَّق إرادة المتكلِّم لأنْ يفيد معنىً على إطلاقه ، وقد تتعلَّق لأنْ يفيد حصّةً من المعنى بإيجاد ضيق فيه ، فمرةً يقول : الصلاة ، واخرى يقول :الصلاة في المسجد ، فأوجد بواسطة « في » حصّة من الصلاة وأفادها . هذا بحسب الحصص .
وكذا الحال بحسب الحالات ، فهو تارةً : يقول : زيد ، واخرى : يريد إفادة زيد في حالة مخصوصة ، فيأتي بحرف أو بهيئة للدّلالة على ذلك ، كأنْ يقول جاء زيد راكباً ، فبذلك يحصل نوع من التضييق في المعنى .
وكذا الكلام في الجمل التامّة ، فقد يدلّل على الجلوس ويفيده ، وقد يريد إفادة حصّة من الجلوس ، فيقول : جلس زيد ، أو زيد جالس .
وهكذا يتحقق بالحروف التضييق في المعاني الاسمية ، ولكلّ حرف معناه الخاص ، وبه يتحقق التضيق بحسب معناه .
لا يقال : التضييق معنًى اسمي ، فإذا كان المعنى الموضوع له الحرف هو التضييق ، كان معنى الحرف معنًى اسميّاً .
لأنا نقول : الموضوع له الحرف ليس مفهوم التضييق ، بل هو واقعه ومصداقه ، فما يأتي إلى الذهن من لفظ التضييق هو مفهوم التضييق ، ولكن التضييق الآتي إلى الذهن من « في » و « إلى » و « من » وغيرها هو مصداق التضييق .
(1) أجود التقريرات 1/27 ـ الهامش ط مؤسّسة صاحب الأمر (عج) .
(2) محاضرات في اصول الفقه 1/84.