دليل القول الثاني
إن المعاني غير متناهية ، بخلاف الألفاظ ، والمتناهي لا يفي باللاّمتناهي ، فلابدَّ من الإشتراك .
أجاب المحقق الخراساني :
أولا : إن كليّات المعاني متناهية ، ومن الممكن وضع الألفاظ بأزاء الكليّات ، وإفادة الجزئيّات بواسطة الكليّات ، كما هو الحال في أسماء الأجناس ، كلفظ « الأسد » الموضوع لجنس هذا الحيوان ، مع إمكان إفادة نوعه وفرده بنفس هذا الاسم ، مع كون أفراده غير متناهية .
وأشكل عليه في ( المحاضرات ) بما حاصله : إن الكليّات أيضاً غير متناهية ، إذا ضمّت إليها القيود المختلفة ، نظير الأعداد ، فإن كلاًّ من العشرة والأحد عشر والثاني عشر … كلّي ذو أفراد ، وهذه العشرة المضافة إلى شيء غير تلك العشرة المضافة إلى شيء آخر .
وأورد عليه الاستاذ : بأنّ الكلّيات العدديّة اعتباريّة وليست بواقعيّة ، فإنّا نعتبر العشرة مثلا شيئاً واحداً ونطبّقها على الأشياء المختلفة ، والبحث إنما هو في الكلمات الواقعيّة ، كالإنسان والأسد والفرس وهكذا .
وأيضاً ، فإنّ ضمّ القيد إلى الكلّي لا يجعله غير متناه ، لأنّ القيد كيفما كان متناه ، فما يضاف القيد إليه متناه أيضاً ، وكيف يحصل اللاّمتناهي من ضمّ المتناهي إلى المتناهي ؟
ثانياً : بأنّه في وضع اللّفظ المشترك نحتاج إلى أوضاع متعدّدة ، بأنْ يجعل اللّفظ مرّة لهذا المعنى ، ومرّة لذاك ، واخرى للثالث … فلو كانت المعاني غير متناهية فالأوضاع كذلك ، لكنّ صدور الوضع غير المتناهي عن المتناهي محال .
قال في ( المحاضرات ) عن هذا الجواب بأنه متين جدّاً .
فأشكل شيخنا :
أوّلا : إن باب الوضع هو باب الجعل ، وإنه لا ريب في أنّ المجعول في القضايا الحقيقيّة أحكام غير متناهية كما فرضوا ، إذ الجعل والمجعول في القضايا الحقيقيّة يتعدّدان بعدد الأفراد بإنشاء واحد ، فأيّ محذور لأنْ يوضع اللّفظ بجعل واحد للمعاني المتعدّدة ؟
فهذا إشكال نقضي .
وأيضاً : لازم ماذكر هو إتحاد العصيان في موارده ، والحال أنّ شرب هذا الخمر معصية ، وشرب ذاك معصية اُخرى ، وهكذا الثالث … وكذلك الإطاعة .
وتلخّص : إن الأحكام متعدّدة بالبرهان ، وباختلاف الإطاعة والعصيان ، وإذا تعدَّد المجعول تعدّد الجعل ، لأن الجعل والمجعول في الحقيقة واحد .
وثانياً : إن صدور الأفعال غير المتناهية من النفس الإنسانيّة لا إشكال فيه ، والدليل عليه نفس الدليل على المجعولات غير المتناهية في القضيّة الحقيقيّة .
وهذا هو الحلّ .
وأجاب المحقق الخراساني ثالثاً : بأنّ الوضع مقدمة للإستعمال ، والإستعمال متناه ، لكونه فعلا خارجيّاً وليس كالأفعال النفسانية ، فجعل الألفاظ غير المتناهية للاستعمالات المتناهية باطل .
وأجاب رابعاً : بأن المجاز باب واسع ، ومعه فلا حاجة إلى الإشتراك .
وقال شيخنا
في الجواب عن استدلال القائلين بوجوب وضع المشترك : بأنّ أساس الإستدلال هو عدم تناهي المعاني ، وهذه الدعوى أوّل الكلام ، وما أقاموا عليها من الدليل لا يفي بها ، فقوله تعالى : ( مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ )(1) و ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ )(2) لا ينافي التناهي ، فعدم تناهي المعاني غير مسلَّم ، نعم ، هي كثيرة إلى ما شاء الله .
على أنّ البحث يدور حول الألفاظ الموجودة ، والألفاظ المشتركة الموجودة محدودة ، كلفظ العين والقرء ، وهي لا تفي بالغرض ـ وهو التفهيم ـ بالنسبة إلى المعاني غير المتناهية كما قيل .
فالقول بوجوب الإشتراك باطل قطعاً .
فالحق : إمكان الإشتراك .
(1) سورة لقمان : 27 .
(2) سورة المدثر : 31 .