دفع الإشكال عن رأي المشهور
هذا ، وإذا كان المدلول في الهيئة عبارة عن ثبوت النسبة ، فإنّه يتوجّه الإشكال الأول ، وهو : إنه لابدّ حينئذ من حصول التصديق بتلك النسبة ولو ظنّاً ، والحال أنه ليس كذلك .
فأجاب شيخنا عن ذلك : بأنّ النسبة الذهنيّة التي ينقلها المتكلّم إلى ذهن السامع بواسطة الهيئة ، هي نسبة تصديقيّة ، ولكن بمعنى القابليّة للتّصديق لا فعليّة التصديق ـ في مقابل ما لا دلالة له إلاّ الدلالة التصوريّة ، وهو مداليل المفردات اللفظيّة ، أو هيئات النسب الناقصة ـ فإن الألفاظ ذوات النسب التامّة دوالّ جعليّة ، ووظيفتها نقل المعاني إلى الأذهان ، فقد يصدَّق بها وقد لا يصدَّق ، وأما فعليّة التصديق ، فليس من وظيفة اللّفظ ، بل ذلك يتبع تحقّق الواسطة في الإثبات وعدم تحقّقه .
فمنشأ الإشكال هو : الخلط بين الحكاية الذاتيّة ، وهي حكاية الصّورة عن ذي الصّورة ، وبين الحكاية الجعلية للألفاظ عن المعاني ، والخلط بين التصديق وبين القابليّة للتصديق ، فإن الإنسان لمّا يرى شيئاً بعينه ، ينطبع صورة من ذلك الشيء في ذهنه ، فيكون ما في ذهنه حاكياً عن الشيء الخارجي الذي رآه ، وهذه هي الحكاية الذاتيّة ، التي لا دور للّفظ فيها ، ثم إذا أراد نقل هذه الصورة التي في ذهنه إلى ذهن شخص آخر ، إحتاج إلى اللّفظ ، فيستعمِله لنقله ، وهذه هي الحكاية الجعليّة ، والمخاطب لمّا يسمع الخبر فقد يصدّق به وقد لا يصدّق ، غير أنّ اللّفظ له القابليّة لأنْ يصدَّق به ، وهذا هو مذهب المشهور على التحقيق .
وحاصل مذهبهم : إن الجملة الخبريّة موضوعة للنسب الذهنيّة الفانية في الخارج ، لا النسب الخارجية ، وهي موضوعة لما يكون قابلا للتصديق ، لا لما يوجب التصديق .
فالإشكال الأول مندفع .
وأمّا الإشكال الثاني ، وهو النقض بموارد وجود الإخبار مع عدم وجود النسبة ، كما في قولنا : شريك الباري ممتنع ، فقد أجاب عنه شيخنا :
أوّلا : إنه إن كان المراد عدم وجود النسبة مطلقاً ، فهو يرد على مبناه أيضاً من أن حقيقة الجملة الخبرية هو قصد الحكاية ، لأن متعلق الحكاية هو النسبة ، وإذا لم تكن نسبة فلا حكاية .
وثانياً : إنه ليس مراد القائلين بأن مدلول الجملة الخبرية وجود النسبة بين الموضوع والمحمول في الخارج ، بل المراد هو النسبة في ما وراء الكلام ، سواء في الخارج أو الذهن . فالإشكال مندفع .
ولعلّه قد التفت أخيراً إلى اندفاعه ، فلم يتعرّض له في ( المحاضرات ) ، وإنما هو مذكور في ( تعليقة أجود التقريرات ) .
وأمّا ماذكره ثالثاً : من أن ثبوت النسبة ونفيها خارج عن الإختيار ، والحال أن حقيقة الوضع هو التعهّد والإلتزام ، ولا يعقل التعهّد بما هو خارج عن الإختيار .
ففيه : إن مبنى التعهّد في حقيقة الوضع قد ظهر بطلانه في محلّه .
وتلخّص : تماميّة رأي المشهور على التحقيق المزبور ، وعدم ورود شيء من الإيرادات المذكورة عليه .
فما ذهبوا إليه هو الحق المختار في مدلول الجملة الخبرية ، وهو الموافق للإرتكاز.
Menu