تعريف الكفاية
ولهذه الاُمور عدل صاحب ( الكفاية ) إلى التعريف الذي ذكره ، فيكون جامعاً بالقيد الذي أضافه لما كان يخرج من تعريف المشهور ، ولا يرد عليه شيء مما ورد عليه … لكن يرد على تعريفه : أوّلا : إنه قال « صناعة » لإفادة آليّة علم الاُصول كما أشرنا سابقاً ، لكنّ علم الاصول هو نفس القواعد لا أنّه صناعة تعرف بها القواعد . وثانياً : اِن ما يعرف به القواعد ، يكون من المبادي التصديقيّة ، وهي خارجة عن مسائل العلم . أورده السيد الحكيم(1) .
ثمّ إنّ المحقق الإصفهاني ] بعد أنْ بيّن وجه الأولويّة في قول (الكفاية) : « الأولى تعريفه بأنه صناعة يعرف بها القواعد .. » ـ بأنّ من وجوه الأولويّة تبديل تخصيص القواعد بكونها واسطة في الاستنباط ـ كما عن القوم ـ بتعميمها لما لا يقع في طريق الاستنباط ، بل ينتهي إليه الأمر في مقام العمل ، وذكر أن وجه الأولويّة استلزام التخصيص خروج جملة من المسائل المدوّنة في الاصول ، لأنه لا ينتهي إلى حكم شرعي ، بل ظن به أبداً ، وإنما يستحق العقاب على مخالفته عقلا كالقطع ، ومثل الاصول العمليّة في الشبهات الحكميّة ، لكون مضامينها بأنفسها أحكاماً شرعيّة وليست واسطةً في استنباطها في الشرعية منها . وأما العقليّة فلا تنتهي إلى حكم شرعي أبداً [ أجرى الإشكال الذي يستلزمه التخصيص ـ كما عن القوم ـ في جلّ مسائل الاصول ، فذكر الأمارات غير العلميّة سنداً كخبر الواحد ، أو دلالةً كظواهر الألفاظ ، وقال بأنّ مرجع حجيّة الأمارات غير العلمية مطلقاً إمّا إلى الحكم الشرعي ، أو غير منتهية إليه أبداً ، وعلى أي تقدير ليس فيها توسيط للإستنباط .
فالحاصل : إن عدول صاحب ( الكفاية ) عن تعريف القوم ليس لأجل خروج الاصول فقط ، بل لأجل خروج الأمارات أيضاً …. فيكون تعريفه أولى من تعريفهم لدخول ذلك كلّه به في علم الاصول .
لكنّه بعد أن أوضح كيفية لزوم خروج الأمارات عن تعريف القوم ، استدرك قائلا :
« إلاّ أنْ يوجّه مباحث الأمارات غير العلميّة .
أمّا بناءً على إنشاء الحكم المماثل ، بأنّ الأمر بتصديق العادل مثلا ليس عين وجوب ما أخبر بوجوبه العادل ، بل لازمه ذلك ، والمبحوث عنه في الاصول بيان هذا المعنى الذي لازمه الحكم المماثل ، وهذا القدر كاف في التوسيط في مرحلة الإستنباط .
وأمّا بناءً على كون الحجيّة بمعنى تنجيز الواقع ، بدعوى أن الاستنباط لا يتوقّف على إحراز الحكم الشرعي ، بل تكفي الحجيّة عليه في استنباطه ، إذ ليس حقيقة الإستنباط والإجتهاد إلاّ تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي . ومن الواضح دخل حجيّة الامارات ـ بأي معنىً كان ـ في إقامة الحجّة على حكم العمل في علم الفقه » .
قال : « وعليه ، فعلم الاصول : ما يبحث فيه عن القواعد الممهّدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي . من دون لزوم التعميم ، إلاّ بالإضافة إلى ما لا بأس بخروجه ، كالبراءة الشرعية التي معناها حليّة مشكوك الحرمة والحليّة ، لا ملزومها ، ولا المعذّر عن الحرمة الواقعية »(2) .
ثم إنه أشكل على تعريف ( الكفاية ) باستلزامه محذورين :
أحدهما : لزوم فرض غرض جامع بين الغرضين ، لئلاّ يكون فن الاصول فنّين .
ثانيهما : إن مباحث حجيّة الخبر وأمثاله ليست مما يرجع إليها بعد الفحص واليأس عن الدليل على حكم العمل ، وأما جعلها مرجعاً من دون تقييد بالفحص واليأس فيُدخل فيهاجميع القواعد العامّة الفقهيّة ، فإنّها المرجع في جزئيّاتها .
وقد ذكر شيخنا الاستاذ دام ظلّه هذين المحذورين وقرّبهما .
أقول : لكن في ( المنتقى ) ما ملخّصه عدم لزوم شيء من المحذورين .
أمّا الثاني : فبأنه يلتزم بإضافة القيد المذكور ـ وهو قول صاحب ( الكفاية ) : أو التي ينتهى اليها في مقام العمل ـ والأمارات وإنْ كانت خارجة عن القيد ، أي ذيل التعريف ، فهي داخلة في صدره ، بناءً على أنّ المراد من الإستنباط هو تحصيل الحجة على الواقع . والمحذور إنّما كان يلزم لو فسّر الإستنباط بإحراز الحكم الشرعي واستخراجه بحيث لا يشمل تحصيل الحجّة عليه ، لأن المجعول في الأمارات ، إمّا المنجزيّة والمعذريّة ، وإما الحكم المماثل ، وهي بكلا المسلكين لا تقع في طريق استنباط الأحكام ، فيلزم خروجها عن علم الاصول .
وأمّا الأول : فهو يرتفع بتصوّر غرض خارجي جامع بين الغرضين ، ويترتّب على جميع مسائل علم الاصول ، وذلك الغرض هو ارتفاع التردّد والتحيّر الحاصل للمكلَّف من احتمال الحكم ، فمسائل الاصول كلّها تنتهي إلى غاية واحدة ، وهي ارتفاع التردّد الحاصل من احتمال الحكم الشرعي ، سواء كانت نتيجتها الاستنباط أو لم تكن كذلك . وبذلك يرتفع المحذور المذكور .
ثم أوضح شمول هذا التعريف لجميع المسائل الاصوليّة ، من الاصول والأمارات وغيرها .
ثم قال : « نعم يبقى ههنا سؤال وهو : لم عدل صاحب ( الكفاية ) إلى هذا التعريف المفصل وذكر كلا القيدين ، مع أن نظره لو كان إلى هذه الجهة المذكورة لكان يكفي في تعريف علم الاصول أن يقول : هو القواعد التي يرتفع بها التحيّر الحاصل للمكلّف من احتمال الحكم الشرعي ، إلاّ أن الأمر في ذلك سهل ، فإنّه لا يعدو كونه إشكالا لفظيّاً . ولعلّ نظره قدّس سرّه إلى الإشارة إلى قصور تعريف المشهور وأنه يحتاج إلى إضافة قيد ، لا إلى بطلانه ، كما قد يشعر به تبديله وتغييره »(3) .
لكن لا يخفى أنّ لفظيّة هذا الإشكال إنّما هي على فرض تماميّة إرجاع تعريفه إلى ماذكره وأتعب نفسه الشريفة ، وهذا أوّل الكلام .
وأمّا تعريفه دام ظلّه ، فإنّما أفاد دخول الاُصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة ، لكونها رافعة للتحيّر والتردّد في مقام العمل . وأمّا الأمارات فهي جارية ومتّبعة سواء قلنا بالمنجزيّة والمعذريّة ، أو جعل الحكم المماثل ، أو الطريقيّة ، بلا أيّ تردّد وتحيّر في مقام العمل ، فتأمّل . هذا أوّلا . وثانياً : إنه يستلزم خروج عدّة من المسائل عن علم الاصول ، كما سيجيء الإعتراف منه والإلتزام بذلك .
(1) حقائق الاصول 1/16 .
(2) نهاية الدراية 1 / 42 ط مؤسّسة آل البيت ، بتصرف قليل .
(3) منتقى الاصول 1 / 27 ـ 29 .