القول الثاني:
والمهمّ نظريّة صاحب ( الكفاية ) ، والكلام حولها يكون بذكر مقدمات ، ثم بيان المدّعى ، والدّليل ، ثم الإشكالات على هذه النظريّة الوارد منها وغير الوارد .
أمّا المقدمات فهي :
أوّلا : إن المعاني على قسمين ، فمنها ما لا يختلف باختلاف اللحاظ كمفهوم الانسان والحجر ، ومنها ما يقبل الاختلاف باختلاف اللحاظ ، مثل من والابتداء ، في والظرفية … وهكذا . ومورد البحث هذا القسم .
وثانياً : إن ذات المعنى لا يختلف باختلاف اللحاظ ، فهو كالمرآة ، فإنها لا تختلف سواء لوحظت بما ينظر أو لوحظت بما به ينظر ، والمثال الدقيق هو الأعراض ، فالبياض على الجدار تارةً ينظر وصفاً للجدار ، واخرى ينظر إليه في مقابل الجدار ، وهو في كلتا الحالتين هو البياض ، ولا تختلف حقيقته .
وثالثاً : إن كلّ ماهيّة ما لم توجد لم تتشخّص ، إذ الخصوصيّة مساوقة للوجود ، كما أنها ما لم تتشخّص لم توجد .
ورابعاً : إن عمل الواضع هو لحاظ المعنى ووضع اللّفظ عليه ، وعمل المستعمِل هو لحاظ المعنى واستعمال اللّفظ الموضوع له فيه ، فتكون مرحلة الإستعمال متأخرة عن مرحلة الوضع ، كما أنّ الوضع متأخّر رتبةً عن المعنى الموضوع له اللّفظ ، وعليه ، فلا يمكن أن يتجاوز لحاظ المعنى في مرحلة الإستعمال إلى مرحلة الوضع ، ويستحيل أن يصير لحاظ المستعمِل عند الإستعمال جزءً من المعنى الموضوع له اللّفظ .
وخامساً : إن لحاظ المعنى في مرحلة الإستعمال من المستعمل ، يعني وجود المعنى في ذهن المستعمل ، وهذا الوجود لا يمكن أن يرد على المعنى الموجود ، بل يرد على المعنى ، لأن الماهيّة الواحدة لا تقبل الوجود مرّتين ، والموجود لا يقبل الوجود بموجود آخر .
هذه هي المقدمات .
والمدّعى هو :
إن كلّ ما يأتي إلى الذهن من لفظ « من » هو الآتي إليه من لفظ « الإبتداء » وكذا « في » و « الظرفية » و « على » و « الإستعلاء » وهكذا .
وتوضيحه مع إقامة الدليل عليه : إن الموضوع له إنما هو ذات المعنى ، وليس اللّحاظ داخلا في حيّز المعنى ، فلا يمكن أن يكون اللّفظ موضوعاً للمعنى الملحوظ ، لأنه يستلزم أن يكون كلّ معنىً ملحوظاً عند الإستعمال ، والحال أنّ الملحوظ لا يصح أن يلحظ مرةً اخرى .
إن الواضع يضع لفظ « الإبتداء » ولفظ « من » لذات المعنى ، غير أن المستعمل تارةً ينظر إلى المعنى شأناً وصفةً لغيره فيستعمل « مِن » واخرى ينظر إلى المعنى بالنظر الإستقلالي في مقابل المعاني الاخرى فيستعمل « الإبتداء » تماماً كما هو الحال في المرآة و « البياض » كما تقدم .
فكون المعنى معنىً إسمياً أو حرفيّاً يرجع إلى مرحلة الإستعمال وكيفيّة لحاظ المستعمل في ظرف الإستعمال ، أمّا في مرحلة الوضع فلا اختلاف جوهري بينهما ، بل الموضوع له واحد وهو ذات المعنى .
فالآليّة الموضوع لها الحرف ، التي تخصّص المعنى ، هذه الآليّة إنما جاءت من ناحية اللّحاظ ، واللّفظ ليس موضوعاً لا للحصّة الخارجيّة ولا للحصّة الذهنيّة .
أمّا أنه غير موضوع للحصّة الذهنيّة ، فلأن الدلالة على هذه الحصّة إنما تكون نتيجة اللّحاظ باللّحاظ الآلي ، واللّحاظ الآلي إنما يكون في ظرف الإستعمال ، وهذا يستحيل أن يكون هو الموضوع له ، لكونه متأخّراً رتبةً كما تقدَّم ، فالحرف غير موضوع للمعنى الخاص الملحوظ الآلي الذهني .
هذا أوّلا .
وثانياً : إذا كان اللّحاظ الآلي جزءً للمعنى الموضوع له ، فإنه يستلزم أن يكون اللّحاظ الإستقلالي في وضع الأسماء أيضاً جزءً للموضوع له ، والتالي باطل لعدم التزام أحد به ، فالمقدّم مثله .
وثالثاً : إذا كان اللّحاظ الآلي والجزئيّة الذهنيّة داخلةً في وضع الحرف ، لزم أنْ يكون جميع استعمالاتنا مجازيّة ، وذلك لأنا نجرّد المعاني لدى استعمالها عن تلك الجزئيّة ، فيكون استعمالا في غير ما وضع له .
وأما أنه غير موضوع للحصّة الخارجيّة ، فلأنّ كثيراً ما تستعمل الحروف في المعنى الجزئي الحقيقي ، لا الخارجي . ففي قولنا مثلا : سرت من البصرة إلى الكوفة ، ليس المستعمل فيه لفظة « من » النقطة الخارجيّة . ولذا جعله بعض الفحول ـ وهو المحقق صاحب ( الحاشية ) على المعالم ـ جزئيّاً إضافيّاً فقال صاحب الكفاية : « وهو كما ترى » أي : لأن الجزئي الإضافي كلّي لا جزئي .
وتتلخّص نظرية صاحب ( الكفاية ) في :
1 ـ الحروف لها معان .
2 ـ إنها متّفقة مع الأسماء المستعملة في معانيها . خلافاً للمشهور .
3 ـ إن الإختلاف إنما يأتي في الإستعمال من جهة لحاظ المستعمِل في ظرف الإستعمال ، وهذا لا يوجد اختلافاً جوهريّاً بين الاسم والحرف .
4 ـ إنه ليس الموضوع له في الحروف المعنى الجزئي والخصوصية ، لا ذهناً ولاخارجاً ، فالوضع فيها عام والموضوع له عام .
هذا ، والجدير بالذكر : إن المحقّق الخراساني يجعل الآليّة والإستقلاليّة عبارةً عن الآليّة والإستقلاليّة في المفهوميّة ، يعني : كما أنّ الجواهر مستقلّة في الوجود خارجاً ولا تحتاج إلى شيء في تحقّقها ، وأن الأعراض بخلافها ، كذلك الاسم والحرف في التعقّل ، فالاسم يتعقّل مستقلاًّ ، أي : يأتي مفهوم « الإبتداء » إلى الذهن غير قائم بشىء ، بخلاف الحرف ، فإنّه لا يأتي إلى الذهن إلاّ إذا كان معه « السير » مثلا .
هذا تمام الكلام في بيان هذه النظريّة .
ما لا يرد عليه من الإشكال :
وإذا تبيّن واقع نظرية صاحب ( الكفاية ) ، فلا يرد عليه :
1 ـ أنه إذا كان بين الآليّة والإستقلاليّة فرق ، فمن المفاهيم الاسميّة ما يلحظ في الذهن آلةً للغير ، فيلزم أنْ يكون حرفاً ، كالتبيّن في قوله تعالى : ( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ )(1) فإنّه ملحوظ آلةً ومرآةً للفجر ، مع أنه اسم .
وجه عدم الورود : أن مراده من الآليّة ـ كما تقدّم ـ عدم الإستقلاليّة في المفهوميّة ، و « التبيّن » في الآية الكريمة وإنْ كان طريقاً لمعرفة الفجر ، إلاّ أنه مستقلّ في التعقّل عن « الفجر » ولا يحتاج في ذلك إليه ولا إلى غيره ، فهو اسم وليس بحرف .
2 ـ إنّه تارةً يكون المعنى الحرفي ملحوظاً بالإستقلال ، كما لو علم بمجيء زيد ثم شك في أنه وحده أو معه أحد ، فيقال : مع عمرو . فإن هذه المعيّة أصبحت ملحوظة بالإستقلال ومقصودة بالتفهيم .
وجه عدم الورود : أن معنى « مع » أي الحرف ، غير مستقلّ في التعقّل ، فلو اُريد مجيؤه إلى الذهن ، فلابدّ من كونه قائماً بغيره من « مجيء » ونحوه ، أمّا حيث يراد إفادة معناه وهو المعيّة فهو اسم وليس بحرف .
3 ـ قوله : بأن المعنى يتغيّر بحسب تعدّد اللّحاظ ، فيه : إن حقيقة اللّحاظ ليس بشيء غير الوجود الذهني ، فإذا كان المعنى قابلا لوجودين ذهنيّين ـ الوجود الآلي والوجود الإستقلالي ـ لزم أنْ يوجدا في الخارج كذلك ، أي يلزم أن تكون ذات المعنى خارجاً قابلةً للتقسيم إلى القسمين ، فإذا وجد المعنى الحرفي خارجاً بالوجود الإستقلالي ، إحتاج إلى معنىً حرفي ليكون رابطاً ، وهكذا .
ولكنّ اللاّزم والتالي باطل ، فالملزوم والمقدّم مثله .
أورده المحقق الإصفهاني .
وأجاب شيخنا الاستاذ بعدم الملازمة بين البابين ، فقد يكون المعنى قابلا للنوعين من الوجود في الذهن ، لكنه لا يكون في الخارج كذلك ، فالأعراض مثلا لا تقبل في الخارج إلاّ الوجود بالغير ، لكنّها في الوجود الذهني تقبل النوعين ، وكالإنسان ، فإن الماهيّة واحدة ، وهي تقبل الوجود الذهني بنحوين : القابل للصّدق على كثيرين ، وغير القابل له ، فهي تقبل الوجود في الذهن بوجود الفرد الذهني ، وتقبل الوجود في الذهن بوجود الكلّي الطبيعي ، لكنها في الخارج لا تقبل الوجود إلاّ بنحو الصدق على كثيرين .
ما يرد عليه من الإشكال
أوّلا : في قوله : الآليّة والاستقلالية تأتي من ناحية اللّحاظ ، وإلاّ فلا فرق جوهري بينهما .
فإنّ اللّحاظ ليس إلاّ الوجود الذهني ، فإذا لم يكن في حاقّ المعنى وذاته لا آليّة ولا إستقلاليّة ، فإنّ لحاظه ـ أي وجوده ـ لا يغيّره عمّا هو عليه .
وبعبارة اخرى : ليس الوجود إلاّ أنْ ينقلب النقيض إلى النقيض ، بأنْ يكون الشيء موجوداً بعد أنْ كان معدوماً ، فالوجود لا يغيّر الماهيّة والحقيقة بل يُظهرها بعد أنْ لم يكن لها ظهور .
وإذا كان اللّحاظ ـ سواء من الواضع أو المستعمِل ـ ليس إلاّ وجود المعنى ، فكيف يكون المعنى باللّحاظ آليّاً تارةً واستقلاليّاً اخرى ؟
وثانياً : إنْ كان الموضوع له اللّفظ ذات المعنى ، وكان الإستقلال وعدم الإستقلال خارجين عنه ، غير أنْ الواضع اشترط على المستعمل استعمال الاسم إن كان المعنى ملحوظاً بالإستقلال ، والحرف إنْ لم يكن .
ففيه : أنه إذا كان المعنى الموضوع له اللّفظ مطلقاً غير متقيَّد لا بالآليّة ولا بالإستقلاليّة ، فكيف يصبح بالإستعمال مقيّداً بهذا تارةً وبذاك اخرى ؟
وثالثاً : إذا كان الموضوع له هو ذات المعنى فقط ، لصحّ استعمال الحرف في محلّ الاسم وبالعكس ، ومن عدم صحّة هذا الإستعمال يستكشف وجود الفرق الجوهري بينهما .
قال صاحب ( الكفاية ) : وجه عدم الصحّة هو : إنّ هذا الإستعمال وإنْ كان في الموضوع له ، إلاّ أنه بغير ما وضع عليه .
فقالوا في شرح هذا الكلام : إن مراده تقييد الواضع للعلقة الوضعيّة .
قلنا : إنْ اُريد أنّ الوضع مقيَّد ، فليس من المعقول كون الوضع مقيّداً والموضوع له غير مقيَّد ، لأن الوضع من مقولة الإضافة ، فيكون التقييد في ناحية الإضافة موجباً للتقييد في متعلَّقها ، فتقييد الموضوع مع عدم تقييد الموضوع له غير ممكن .
وإنْ كانت العلقة الوضعيّة مطلقة غير مقيَّدة ، فلابدّ من كون الموضوع والموضوع له كليهما مطلقين ، وحينئذ جاز استعمال كلّ في مكان الآخر ، وبطل منع ذلك بناء على تقييد الوضع .
فلا يندفع هذا الإشكال ، اللهم إلاّ بأنْ يقال : إن الواضع شرط على المستعملين لدى الإستعمال لحاظ الاسم مستقلاّ ولحاظ الحرف آلةً . ويردّه : عدم وجود الموجب لاتّباع شرط الواضع والإلتزام به .
(1) سورة البقرة : 187.