القول الثالث:
إنّ المعنى الحرفي يختلف والمعنى الاسمي اختلافاً جوهريّاً ، وإليه ذهب جمهور المحققين ، غير أنهم اختلفوا في تصوير هذا الإختلاف وبيان حقيقته :
* رأي الميرزا
فقال المحقق النائيني : إنّ المعنى الحرفي يباين المعنى الاسمي ، والتباين بينهما هو بالإيجاديّة والإخطاريّة ، فالمفاهيم الاسميّة إخطاريّة ، والمفاهيم الحرفيّة إيجاديّة .
وقد ذكر لإثبات مدّعاه خمس مقدّمات ، وبناه على أربعة أركان :
وملخّص كلامه هو :
إن المعاني على قسمين ، منها : إخطاريّة ، ومنها : غير إخطاريّة ، فما يكون صالحاً لأنْ يخطر في الذهن بنفسه فهو معنًى اسمي ، وما لا يصلح لذلك بل لابدَّ من كونه ضمن كلام مرتّب بترتيب معيّن فهو معنى حرفي . والمعاني غير الإخطارية إيجاديّة ، غير أنّ هذه المعاني الإيجاديّة تنقسم إلى قسمين ، فمن الحروف ما يوجد مصداق لمعناه في الخارج ، كحروف النداء والتشبيه ونحوها ، فإنّه لمّا يستعمل حرف النداء ويقال : يا زيد ، يوجد مصداقٌ للنداء خارجاً ، وكذا في : زيد كالأسد ، ومن الحروف ما لا يوجد مصداق لمعناه في الخارج مثل « من » و « على » و « إلى » ، فهي حروف نسبيّة ، أي أن معناها ليس إلاّ إيجاد النسبة والربط بين المعاني المتباينة التي لاربط بينها ، كما في : سرت من البصرة إلى الكوفة .
فالحروف كلّها إيجاديّة ، غير أنْ بعضها لمعناه مصداق في الخارج وبعضها لا ، بل هي لإيجاد الربط والنسبة فقط ، فما في كلام صاحب (الحاشية) من تقسيم الحروف إلى إيجادية وغير إيجادية غير صحيح .
وبالجملة ، فلا شيء من الحروف بإخطاري .
ثم قال : إن النسبة بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي هي النسبة بين المفهوم والمصداق ، فالمعنى الاسمي له خاصيّة المفهوم ، والمعنى الحرفي له خاصيّة المصداق ، فالتفاوت بين « النداء » الذي هو معنى اسمي ، وبين « يازيد » الذي هو معنى حرفي ، هو التفاوت بين « مفهوم الماء » و « مصداق الماء » ، مع الإلتفات إلى أنا بواسطة الحرف نوجد المعنى ، ولا ظرف لمعناه إلاّ ظرف الإستعمال ، وهو موطن تحقّقه ، بخلاف مثل صيغ العقود والإيقاعات التي موطن تحقّق المنشأ فيها هو وعاء الإعتبار .
فظهر أن الإختلاف بين المعنيين ـ الاسمي والحرفي ـ جوهري ، إذ المعنى الاسمي إخطاري مستقل في التعقّل غير محتاج إلى شيء ، والمعنى الحرفي إيجادي غير مستقل وهو يفيد الربط بين المعاني الإخطارية المتباينة ، فهو غير إخطاري ، إذ ليس إلاّ في عالم الإستعمال ، فالمعاني الاسميّة دائماً مقصودة بالإستقلال ، والمعاني الحرفيّة دائماً آليّة وينظر إليها بالتبع ، بل إنها حين الإستعمال فانية فناء اللّفظ في المعنى ، وهي توجد الربط بين الأسماء ـ كربط « على » بين « زيد » و « السطح » ـ في مقام التكلّم ، لا في الخارج ، وهذا الربط والنسبة من قبيل النسبة بين الظلّ وذي الظل ، ولذا قد تطابق وقد تخالف ـ وليس من قبيل النسبة في الخارج ، التي هي النسبة بين الدّال والمدلول وحقيقة هذه النسبة في الحروف عبارة عمّا يؤخذ من قيام احدى المقولات التسع بموضوعاتها ، فإنْ لم تؤخذ هذه الخصوصيّة في المقولات التسع لم تكن هناك نسبة ، فالعرض لو لم يكن فيه جهة قيام بالجوهر فلا نسبة ، كما هو الحال بين جوهر وجوهر آخر ، إذ حقيقة النسبة ناشئة من قيام احدى المقولات التسع بموضوعاتها(1) .
(1) أجود التقريرات 1/25 ـ 32 ط مؤسّسة صاحب الأمر (عج).