السبب في عدول الكفاية
ثم إنّ السبب في عدول أصحاب هذا القول ـ كصاحب ( الكفاية ) ـ عمّا قاله المشهور ، هو التخلص من اشكال يلزم عليه ، وتوضيح ذلك هو : إنّ المحمولات في مسائل العلوم تعرض على موضوعاتها ، وتلك الموضوعات هي الواسطة لعروضها على موضوع العلم ، فمثلا ـ في علم النحو ـ يعرض الرفع على الفاعل ، وبواسطته يعرض على الكلمة التي هي موضوع علم النحو ، لكنّ « الفاعل » أخص من « الكلمة » فيلزم أن يكون هذا البحث في علم النحو بحثاً عن العرض الغريب . وكذا في غيره من العلوم ، كالفقه مثلا ، فبناءً على أن موضوعه « فعل المكلَّف » يكون الوجوب عارضاً على الصّلاة ، وبتوسّط الصلاة يعرض على موضوع العلم الذي هو فعل المكلَّف وهو أعم من الصّلاة . وكما يكون موضوع المسألة أخص من موضوع العلم ـ كما في علمي النحو والفقه كما ذكرنا ـ كذلك قد يكون أعم ، وذلك كما في علم الاصول ، فيكون العروض بواسطة أمر أعم ، لأن الموضوع فيه ـ على المشهور ـ الأدلّة الأربعة ، لكن البحث عن وجوب المقدمة وعدمه ـ مثلا ـ غير مختص بالخطابات الشرعيّة ، وكذا في مسألة اقتضاء الأمر للنهي عن الضد ، أو ظهور الأمر في الوجوب ، ونحو ذلك .
أمّا بناءً على تفسير العرض الذاتي بما لا واسطة له في العروض ، فالإشكال مندفع ، إذ المناط عدم الواسطة في العروض ، وهو حاصل ، لكون موضوع العلم متحداً وجوداً مع موضوع المسألة ، لأن « الفاعل » متّحد وجوداً مع « الكلمة » ، وكذا « الصّلاة » مع « فعل المكلّف » ، وإنْ اختلفا مفهوماً ، ولذا قال في ( الكفاية ) : « هو نفس موضوعات مسائله عيناً وما يتّحد معها خارجاً ، وإنْ كان يغايرها مفهوماً … » .
يعني : إن نسبة موضوع المسألة إلى موضوع العلم نسبة النوع إلى الجنس ، فموضوع العلم إنْ لوحظ لا بشرط بالنسبة إلى موضوعات المسائل ، كان العرض فيها عرضاً ذاتيّاً لموضوع العلم ، وإنْ لوحظ بشرط لا ، صار عرضاً غريباً . مثاله : « الحيوان » فإنّه إن لوحظ بشرط لا بالنسبة إلى الناطق والصاهل ، كان التعجّب العارض عليه عرضاً غريباً وإسناد التعجّب إليه مجازيّاً ، وإنْ لوحظ متّحداً مع الناطق وكان وجودهما واحداً ، كان التعجّب العارض بواسطة الناطق عرضاً ذاتيّاً بالنسبة إلى الناطق وبالنسبة إلى الإنسان .
كان هذا بيان الإشكال وشرح طريق المحقّق الخراساني لدفعه .
وقد حقّق شيخنا دام ظلّه هذا الطريق وفصّل في المقام بما حاصله : أنّ هذا الطّريق إنّما يفيد في الواسطة التي هي أعم ، وعلم الاصول من هذا القبيل كما تقدّم ، إذ العروض وإنْ كان بواسطة أمر أعم ، لكنّ الصّدق حقيقي عرفاً وليس مجازيّاً . أمّا في سائر العلوم التي يكون موضوع المسألة فيها أخص ، فالإسناد ليس حقيقيّاً لا عقلا ولا عرفاً ، فيكون الإشكال فيها باقياً على حاله .
كما أنّ جواب صدر المتألّهين ـ والمحقق الإصفهاني ـ عن الإشكال ، إنما يفيد فيما إذا كانت الواسطة والعارض موجودين بوجود واحد ، كالجوهرية والجسميّة ، فإنّهما موجودان بوجود واحد ومجعولان بجعل واحد ، الجوهر يوجد بنفس تعلّق الجعل بالجسم ، فالجسم وإنْ عرض على « موجود » بتوسط « جوهر » لكنّ « جوهر » واسطة للعروض بحسب الترتيب العقلي ، إذ الموجود عقلا يكون ممكناً والممكن يصير جوهراً ، والجوهر يصير جسماً ، لكنّ الإمكان والجوهريّة والجسميّة كلّها موجودة بوجود واحد . فنفس هذه الجسميّة تصير من العوارض الذاتيّة للموجود بتوسط الجوهريّة التي هي عارضة بتوسط الإمكان ـ أي الإمكان الفقري ـ إلاّ أنّ كلّ ذلك عروض ذاتي ، لأنها جميعاً موجودة بوجود واحد .
بخلاف ما إذا كانت الواسطة والعارض موجودين بوجودين ، كالتعجّب العارض على الحيوان بواسطة الإنسان ، فالعارض غريب لا ذاتي … والإشكال حينئذ باق .
والمحقق النائيني حاول دفع الإشكال بالنزاع في الصغرى ، فأنكر أنْ يكون العارض على الجنس بواسطة النوع عرضاً غريباً .
لكنّ ماذكره قدّس سرّه لا ينسجم مع تصريحات أكابر الفلاسفة ، كالشيخ والخواجة وغيرهما ، في تعريف العرض الذاتي ، وكلّهم يجعلون ما ذكر من العرض الغريب لا الذاتي .
Menu