الجهة الثّالثة
في الوضع العام والموضوع له الخاص ، بأنْ يكون المعنى الملحوظ عامّاً يقبل الصّدق على كثيرين ، فيوضع اللّفظ بواسطته على كلّ فرد فرد .
قالوا : بإمكانه ، لأن العام وجه للخاص ، ومعرفة وجه الشيء معرفة الشيء بوجه ، إذْ لا يلزم في الوضع معرفة المعنى بالكنه .
قال الاستاذ
في هذا الإستدلال نقاط ، أمّا أنّ معرفة المعنى على الإجمال تكفي لصحّة الوضع ، ولا يلزم المعرفة التفصيلية والوقوف على كنه المعنى ، فهذا صحيح . وأمّا أنّ معرفة وجه الشيء معرفة للشيء بوجه ، فهذا أيضاً صحيح . إنما الكلام في أنّ العام وجه للخاص ، وتوضيح الإشكال هو :
إنّ للعام مفهوماً ، وللخاص مفهوم ، فمفهوم « الإنسان » غير مفهوم « زيد » ، وهذه المغايرة مغايرة تباين ، وإذا كانت المفاهيم متباينات ، استحال أنْ يكون بعضها حاكياً عن الآخر ، ومع عدم الحكاية كيف تحصل المعرفة ولو بوجه ؟
وأيضاً ، فإنّ مفهوم العام هو الصّدق على كثيرين ، ومفهوم الخاص هو الإباء عن الصّدق على كثيرين ، فكيف يكون الصدق على كثيرين حاكياً عن الإباء عن الصدق ؟
فما ذكره صاحب ( الكفاية ) غير واف بحلّ المشكلة .
فقال المحقق العراقي بأن المفاهيم العامة على قسمين ، أحدهما : المفاهيم العامّة التي ليس لها قابليّة الحكاية عن المصاديق ، مثل « الإنسان » ، فإنه إنما يحكي عن ذات الإنسان وهو الحيوان الناطق ، ولا يحكي عن زيد وعمرو … والقسم الآخر : المفاهيم العامة المنتزعة من نفس الخصوصيّات ، فهذا القسم يكون وجهاً لها ، مثل : مفهوم مصداق الإنسان ، وفرد الإنسان ، وشخص الإنسان . فداعي هذا القسم من المفاهيم من حيث انتزاعه عن الفرديّة هو الحكاية عن الفرد ، وحينئذ أمكن الوضع العام والموضوع له الخاص .
وأشكل عليه شيخنا بأن « مصداق الإنسان » إن كان عين مفهوم « زيد » و « عمرو » و « بكر » فلا يصحّ صدقه عليه ، كما لا يصحّ صدق مفهوم « زيد » على « عمر » وإنْ كان غيره فكيف يحكي مفهوم عن مفهوم ؟ ومفهوم « مصداق الإنسان » إنما يحكي عن « زيد » من حيث أنه مصداق الإنسان ، ولا يحكي عنه من حيث أنه زيد ، وكلّ جامع فإنه يحكي عن الأفراد من حيث انطباقه عليها ولا يحكي عنها من جهة كونها أفراداً .
وذكر المحقق الشيخ علي القوچاني ، وتبعه المحقق المشكيني في ( حاشية الكفاية ) ما حاصله :
إنه إنْ اريد وضع اللّفظ بواسطة العام على الأفراد بما لها من الخصوصيات ، فهذا غير ممكن ، لكون مفهوم العام مبايناً لمفهوم الخصوصية ، ولا يكون المباين وجهاً لمباينه ، ولكن الموضوع له هو مفاهيم الجزئيات بلحاظ وجوداتها ، فالمفهوم الخاص هو الموضوع له بلحاظ وجوده لا بلحاظ مفهومه ، وحينئذ ، فلمّا كان الكلّي متّحداً وجوداً مع الفرد صار عنواناً له ، وكانت معرفة المعنون بالعنوان .
وأورد عليه شيخنا :
أوّلا : بأن كون الموضوع له هو الوجودات لا المفاهيم ، غير معقول ، إذ الموضوع له هو ما يكون قابلا لأنْ تتعلّق به الإرادة الإستعمالية ، فالموضوع له لابدّ وأنْ يكون قابلا للتفهيم ، والوجودات غير قابلة لذلك ، بل القابل للتفهيم ما يقبل الدخول في الذهن وهو المفهوم .
على أنّ معاني الألفاظ قابلة للوجود والعدم ، فكيف تكون الألفاظ موضوعةً للوجودات الخاصّة ؟
وثانياً : إنّ المقصود أنْ نرى الجزئيّات والخصوصيّات بتوسط المعنى العام الكلّي الملحوظ لدى الوضع ، والإتحاد في الوجود لا يعقل أن يصير منشأً للعنوانيّة ، بأنْ يكون أحد المتحدين مرآة لرؤية الآخر ولحاظه ، ومن هنا ، فإن الجنس والفصل الموجودين بوجود واحد ، لا يكون الإتحاد الوجودي بينهما مصحّحاً لحكاية أحدهما عن الآخر ، وأوضح من ذلك مقولة الإضافة ، فإنها متّحدة مع المضاف في الوجود ، مع أنه لا يعقل أن يحكي أحدهما عن الآخر ، فلا تعقل حكاية الفوقية عن السقف والابوّة عن الأب .
طريق آخر ذكره بعض الفلاسفة :
ولا يخفى أن مورد الكلام هو الوضع لخصوصيّات الماهيّة القابلة للصدق على الكثيرين ، لا الخصوصيات مع أمارات التشخّص ، فالبحث هو أن يكون الإنسان مرآة ينظر به حصص الإنسان من زيد وعمرو وبكر ، لا تلك الحصص مع مشخّصاتها وأعراضها ، بأنْ يحكي الإنسان عن زيد مع ماله من الكم والكيف ، فإنّه ليس للعام هذه الصلاحيّة أصلا … فنقول :
إن المفاهيم على أقسام :
فمنها : ما هو كلّي وهو مصداق لمفهوم الكلّي أيضاً ، مثل : « الإنسان » وسائر أسماء الأجناس ، فإنه مفهوم قابل للصّدق على كثيرين ، وهو مصداق لمفهوم الكلّي أيضاً .
ومنها : ماهو جزئي مفهوماً ، فلا يقبل الصّدق على كثيرين ، وهو مصداق لمفهوم الجزئي أيضاً ، مثل الأعلام الشخصيّة .
ومنها : ماهو جزئيٌ مفهوماً ، لكنه مصداق لمفهوم الكلّي ، مثل « الشخص » و « الفرد » فهذا السنخ من المفاهيم مفاهيم جزئية وشخصيّة من حيث المفهوميّة ، ولكنها مصاديق لمفهوم الكلّي ، لذلك نقول : الجزئي جزئي مفهوماً وكلّي مصداقاً ، فهي جزئيّة بالحمل الأوّلي وكليّة بالحمل الشائع .
فهذا القسم الثالث له صلاحيّة الحكاية والكشف عن الحصص ، وذلك لأنّ هذه المفاهيم وإنْ كانت كليّةً من حيث الوجود ، إلاّ أن الوضع إنما هو للمفاهيم لا للوجودات ، وحينئذ ترى الإتحاد المفهومي بين مفهوم الفرد وواقع الفرد ، وبين مفهوم الشخص وواقع الشخص ، ولأجل هذا الإتحاد المفهومي تكون صالحةً للحكاية .
وهذا هو الأساس في صحة الأحكام على المفاهيم التي لها حكم بالحمل الأوّلي ، ولها حكم آخر بالحمل الشائع ، مثل قولنا : شريك الباري ممتنع ، فما لم يكن للموضوع وجود ذهني لا يحمل عليه « ممتنع » فشريك الباري موجود بالحمل الشائع ، والإمتناع حكم واقع شريك الباري لا شريك الباري المتصوَّر ذهناً . وكذا مثل قولنا : إجتماع النقيضين محال ، المعدوم غير موجود ، وهكذا . فكما أن مفهوم اجتماع النقيضين له الصلاحيّة لأنْ يحكي عن اجتماع النقيضين الذي هو موضوعٌ لقولنا « محالٌ » فكذا عنوان « مصداق الإنسان » وكذلك « الفرد » و « الشخص » … فله الصلاحيّة لأنْ يحكي عن الحصّة الواقعية للإنسان التي هي مصداق جزئي حقيقي .
وتلخّص : إمكان الوضع العام والموضوع له الخاص ، عن طريق التفصيل المذكور بين المفاهيم العامّة ، وتحقّق الوحدة المفهوميّة في قسم منها ، فإنّه بالوحدة المفهومية وبالحمل الأوّلي تصير منشأً للحكاية عن الحصّة .
أقول :
هذا ما استقرّ عليه رأيه في الدورة المتأخّرة .
إلاّ أنه في الدورة السابقة أشكل على هذا الوجه بما حاصله : وجود الفرق بين مفاهيم « الفرد » و « الشخص » و « الجزئي » ومصاديقها ، لأن مفهوم الفرد مثلا من حيث أنّه مفهوم الفرد يحكي عن جميع الأفراد واحداً واحداً ، أما واقع الفرد ومصداقه فلا حكاية له عن هذا وذاك من الأفراد ، والذي نحن بصدده هو الوصول إلى الواقع عن طريق المفهوم ، فالإشكال يعود ، لأنّ حيثيّة الواقع حيثية الإباء عن الصدق على كثيرين ، ومفهوم الفرد حيثيّته القبول للصدق على كثيرين ، فبينهما تناقض ، والنقيض لا يحكي عن نقيضه .
فإنْ قيل :
إنا إذا لم نتمكّن من لحاظ الجزئيات ، يلزم بطلان القضايا الحقيقيّة ، لأن الأفراد الحقيقية غير متناهية ، ولولا لحاظها بواسطة العام ـ وهو العنوان الكلّي المتناهي ـ لم يمكن الوضع لها ، فلا تتحقق القضية الحقيقية .
قلنا :
ليس الحكم في القضايا الحقيقية بلحاظ الخصوصيات دائماً ، فلا يلزم في مثل : « كلّ من كان مستطيعاً فيجب عليه الحج » لحاظ أفراد المستطيع ، بل الحكم يتوجّه إلى كلّ مستطيع من حيث أنه مستطيع ، لامن حيث أنه زيد وعمرو وبكر … وهذا القدر كاف في صحّة القضيّة الحقيقيّة.
لكنّ الكلام في المقام في لحاظ الخصوصيّة ـ بما هي خصوصيّة ـ بواسطة العام ، فبين المقام ومسألة القضية الحقيقيّة فرق ، وإنكار الوضع العام والموضوع له الخاص لا يضرّ بتلك المسألة.
Menu