الآراء في المقام :
مذهب المشهور هو أنّ التمايز بالموضوعات ، لأنّ هناك بين مسائل كلّ علم من العلوم جهة اتّحاد ، عبّر عنها الشيخ ابن سينا وغيره بالتناسب ، وهذا التناسب غير حاصل بالمحمولات ، لأنّها إنّما تكون ملحوظة بالعرض ، وكلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذّات ، وكذا الأغراض ، فلابدّ وأن يكون بالموضوعات ، فهي الجامعة والمايزة .
واختار المحقق البروجردي أنه بالمحمولات ، ونسبه إلى مشهور القدماء .
وبما ذكرنا يظهر مافيه وفي النسبة إليهم .
وقد خالفهم المحقق الخراساني ، مع قوله بأنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، ومقتضاه : أن تكون الموضوعات هي الجامعة بين شتات المسائل ، لأمرين :
أحدهما : إن في علم الاصول مسائل كثيرة هي من مسائل علوم اخرى ، فجعل الغرض هو الجامع فراراً من هذا المشكل ، لأن المسائل ـ وإنْ تداخلت بين العلوم ـ تختلف من ناحية الغرض الداعي إلى تدوينها ، فلا مانع من كون المسألة الواحدة من مسائل علمين ، وهما متمايزان لاختلاف الغرض .
والثاني : إنّه وإنْ كان لكلّ علم موضوعاً يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، إلاّ أنّ لازم القول بتمايز العلوم بالموضوعات أنْ يكون كلّ باب من كلّ علم علماً على حده ، وكذا بناءً على كونه بالمحمولات ، فجعل الغرض هو الجامع فراراً من هذا المشكل .
وفصّل المحقق الخوئي في المقام ، فوافق صاحب ( الكفاية ) ـ من كون المائز هو الغرض ليس إلاّ ـ في بعض الصور وخالفه في البعض الآخر ، فقال : بأنّه تارةً يراد من التمايز مرحلة الإثبات لمن يجهل العلوم ، واُخرى يراد منه التمايز في مرحلة الثبوت وفي مقام التدوين .
أما المقام الأول : فحقيقته أن كلّ شخص إذا كان جاهلا بحقيقة علم من العلوم وأراد الإحاطة به ولو بصورة إجمالية ، فللعالم بذاك العلم أنْ يميّزه له عن غيره من العلوم بما شاء من التمييز ، بالموضوع أو المحمول أو الغرض ، كأن يقول له في مقام تعريف علم النحو : إن موضوعه الكلمة والكلام ، أو يقول : غايته حفظ اللسان عن الخطأ من المقال ، أو يقول : محموله الإعراب والبناء .
وأما المقام الثاني : فلأن المؤلّف والمدوّن للعلم يختلف تمييزه له عن غيره باختلاف الدواعي .
فتارة : يكون هناك غرض خارجي يترتب على العلم والمعرفة بتلك المسائل التي دوّنها ، فلابدَّ من البحث عن كلّ مسألة اشتملت على ذلك الغرض ، كما أن التمييز حينئذ لابدّ وأن يكون بالغرض ، وليس له التمييز بالموضوعات ، إذ لا عبرة ـ في الغرض ـ بوحدة الموضوع وتعدّده ، على أنه يقتضي أن يكون كلّ باب بل كلّ مسألة علماً على حدة ، كما ذكر صاحب ( الكفاية ) .
وأخرى : يكون الداعي إلى التدوين نفس العلم والمعرفة ، دون أنْ يكون هناك غرض خارجي يدعوه إلى تدوين المسائل . وهذا يكون على نحوين ، فتارةً هناك موضوع يريد أن يبحث عن أحواله ، كما في علم الطب ، فلابدّ من التمييز بالموضوع ، واخرى هناك محمول يريد أن يبحث عمّا يعرض عليه ذلك المحمول ، كالحركة والسكون ، فلابدّ من التمييز بالمحمول فقط(1) .
وحاصله : الموافقة مع صاحب ( الكفاية ) في خصوص ما إذا كان الغرض من التدوين هو غرض خاص ، كالصحّة والمرض في علم الطب ، وحفظ اللّسان في علم النحو ، وصيانة الفكر في علم المنطق ، والمخالفة فيما إذا لم يكن الغرض من التدوين إلاّ المعرفة .
(1) تعليقة أجود التقريرات 1/11 مؤسّسة صاحب العصر عليه السلام، مصابيح الاصول 19 ـ 20.