بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، من الأوّلين والآخِرين.
وبعد:
فإنّه يصلنا بين كلّ يوم وآخر كتاب عن الشيعة وأئمّتها وعقائدها، من مختلف البلدان، الإسلامية منها وغير الإسلامية، يكتبها «دكاترة» و«مشايخ» يحاولون الصدّ عن انتشار التشيّع في العالم، والوقوف أمام توجّه أبناء الفرق الأُخرى إليه… .
وكذلك الحال في كلّ زمان ومكان… فما خرج «منهاج السُنّة» من الشام، ولا «الصواعق المحرقة» من مكّة، ولا «التحفة الاثنا عشرية» من الهند، ولا غير هذه الكتب في الأَزمنة والأمكنة المختلفة… إلاّ لهذا السبب… .
يقول ابن حجر المكّي في مقدّمة كتابه: «سئلت قديماً في تأليف كتاب يبيّن حقيقة خلافة الصدّيق وإمارة ابن الخطّاب، فأجبت إلى ذلك مسارعةً في خدمة هذا الجناب… ثمّ سئلت في إقرائه في رمضان سنة 950 بالمسجد الحرام، لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكّة المشرّفة، أشرف بلاد الإسلام، فأجبت إلى ذلك، رجاءً لهداية بعض من زلّ به قدمه عن أوضح المسالك»!!
وكأنّ هذا السبب الآن أقوى من أيّ وقت مضى… فما أكثر الكتب والمقالات في المجلاّت… وحتّى الأَشرطة… التي تُنشر ضدّ هذا المذهب على مختلف المستويات… في هذه الأَيّام… لكنّها ـ في الأَغلب ـ تكرار لما تقوّله الأَقدمون، واجترار لِما لفظه الغابرون، وتهجّمات لا يقوم بها إلاّ الجاهلون… ولا جواب لها… إلا «السلام».
إلاّ أنّا نجد ـ من بين تلك الكتب ـ كتباً نادرةً يبدو أنّ مؤلّفيها شعروا بأنّ التهريج والافتراء لا يلائم روح العصر، وأنّه لا يجدي إنْ لم يثمر العكس… .
فجاءوا يدّعون العلميّة والتحقيق، ويتظاهرون للنّبي وآله بالولاء والتصديق… فكانت كتبهم بظاهرها جديرةً بالقراءة والدراسة… .
لكنّك إذا لاحظتها وجدتها لا تختلف في واقعها عن غيرها… إلاّ من ناحية الأُسلوب، أعني خلوصها ـ إلى حدٍّ ما ـ من السبّ والشتم… .
أمّا خلوصها من التحريف، من الكذب، من كتم الحقائق، من إنكار الأُمور المسلَّمة… فلا… .
ولقد وقع اختياري على عدّة من الكتب المنتشرة في الردّ على عقيدة الشيعة، من أجل الردّ عليها على ضوء روايات أهل السنّة في كتبهم المعروفة المعتمدة وكلمات كبار حفّاظهم وعلمائهم الأعلام في القرون المختلفة، فمنها:
كتاب صغير ألّفه الدكتور السالوس حول حديث «إنى تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي…»، فوضعت في ردّه كتاب (حديث الثقلين: تواتره وفقهه).
وكتّيب آخر نشره حول آية التطهير، فألّفت في الرد عليه كتاب (مع الدكتور السالوس في آية التطهير).
وأخرج آخر باسم مستعار كتاباً زعم أنه ردٌّ على كتاب المراجعات للمجتهد الأكبر المرحوم السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي العاملي، فكان السّبب في تأليفي لكتاب (تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات).
ثم وقع بيدي كتاب في أقل من 200 صفحة زعم مؤلّفه أنه سيرة أمير المؤمنين علي عليه الصّلاة والسلام.
الكتاب عنوانه «المرتضى: سيرة أمير المؤمنين سيّدنا أبي الحسن عليّ بن أبي طالب، رضي اللّه عنه وكرّم اللّه وجهه» ومؤلّفه: «أبو الحسن علي الحسني الندوي» من منشورات «دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بدمشق».
وهو في فصول عشرة:
الفصل الأَول: عليّ بن أبي طالب في مكّة، من الأُسرة والولادة إلى الهجرة، 13 ـ 35.
الفصل الثاني: عليّ في المدينة من الهجرة إلى وفاة الرسول، 37 ـ 55.
الفصل الثالث: سيّدنا عليّ في خلافة أبي بكر، 57 ـ 93.
الفصل الرابع: سيّدنا عليّ في خلافة عمر، 95 ـ 114.
الفصل الخامس: سيّدنا عليّ في خلافة عثمان، 115 ـ 136.
الفصل السادس: سيّدنا عليّ في خلافته، 137 ـ 157.
الفصل السابع: سيّدنا عليّ إزاء الخوارج وأهل الشام إلى شهادته، 159 ـ 174.
الفصل الثامن: سيّدنا عليّ بعد الخلافة، 175 ـ 192.
الفصل التاسع: سيّدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين 193 ـ 219.
الفصل العاشر: سادة أهل البيت وأولاد عليّ، 221 ـ 250.
فالكتاب كلّه يقع في 250 صفحة!
والمتعلّق منه بالموضوع ـ وهو سيرة المرتضى أمير المؤمنين ـ 190 صفحة فقط!!
تناولت هذا الكتاب… وأنا مستغرب كيف تمكّن المؤلّف من أنْ يودع «سيرة المرتضى أمير المؤمنين» في صفحة 190 فقط؟!
فوجدته يقول في المقدّمة:
«ومن هذه الشخصيات المظلومة أو المهضومة حقّها: شخصيّة سيّدنا عليّ بن أبي طالب، التي تراكمت عليها حجب كثيفة!! على مدى القرون والأَجيال، لأَسباب مذهبيّة طائفيّة ونفسيّة، ولم ينصف لها حقّ الإنصاف، ولم تُعْرش للدارسين والباحثين ـ وحتّى للمحبّين المُجِلِّين ـ في صورتها الحقيقية، وإطارها الواسع الشامل، وفي استعراض ـ أمين دقيق محايد ـ للعصر الذي نبغت فيه، والأَحداث التي عاشتها، والمجتمع ورجاله وقادته الّذين عاصرتهم وتعاونت معهم، والمعضلات والمصاعب التي واجهتها، والقيم والمُثل التي تمسّكت بها أشدّ التمسّك، والخطّة السياسيّة والإدارية التي آثرتها، ولم يبحث عن أسبابها ونتائجها، ولم تقارن بنقيضها وضدّها ونتائجه، لو فضّله وسار عليه».
قرأت هذه الفقرة وازداد تعجّبي واستغرابي، وخشيت أن يكون هذا المؤلّف أيضاً ممّن لم ينصف تلك الشخصية المظلومة أو المهضومة حقّها!! بل يكون هو أيضاً من الظالمين لها والهاضمين لحقّها!!
ثم رأيته يقول:
«ولكنّي بدأت بعد ذلك أشعر ـ بشدّة ـ بفراغ مثير للاستغراب والدهشة في المكتبة الإِسلامية العالمية، فيما يختصّ بموضوع سيرة سيّدنا عليّ بن أبي طالب، سيرةً موسّعة مؤسّسة على دراسة تاريخية جديدة واسعة، يتخطّى فيها المؤلّف الحدود المرسومة التي قيّد فيها المؤلّفون كتاباتهم…».
فقلت: وهل مَلأْتَ الفراغ المثير للاستغراب والدَّهشة، وجئتَ بـ«سيرة موسّعة مؤسّسة على دراسة…» في فصول لا تبلغ المائة ورقة؟!
وحينئذ عزمت على مواصلة القراءة، لأَفهم ـ قبل كلّ شيء ـ كيف تكون المعجزة؟!… «سيرة موسّعة»… «تملأ الفراغ»… لشخصيّة «مظلومة أو مهضومة حقّها…» «في إطارها الواسع الشامل…»… «في استعراض أمين دقيق محايد…»… في 190 صفحة!!
وثمّة شيء آخر.. في المقدّمة.. يلفت النظر.. وهو وصفه هذا الكتاب بقوله:
«لا يكون عيالا على ما كتب وأُلّف، ولا على مصادر التاريخ المعدودة العرفية المعيّنة، التي يستقي منها المؤلّفون معلوماتهم في الغالب…».
ثم قوله:
«إنّي التزمت في تأليف هذا الكتاب مبدأين كلّ الالتزام:
أوّلا: أنْ أعتمد على الكتب القديمة الموثوق بها المتلقّاة بالقبول فقط.
ثانياً: التزمت الإِحالة في النقل إلى اسم الكتاب بقيد الجزء ورقم الصفحة…».
ولكنّك إذا ما راجعت فهرس مصادره وجدتَه يستقي معلوماته من «مصادر التاريخ المعدودة العرفيّة المعيّنة» أمثال «سيرة ابن هشام» و«البداية والنهاية»… .
ويخالف ما يدّعي الالتزام به في قوله: «أعتمد على الكتب القديمة…» فقد اعتمد كثيراً على «البداية والنهاية» و«إزالة الخفاء في سيرة الخلفاء» و«السيرة الحلبية» ونحوها من كتب المتأخّرين، حتّى أنّه رجّح في غير مورد ما جاء في أحد هذه الكتب على ما روته «الكتب القديمة« كـ«تاريخ الطبري» و«سيرة ابن هشام»… مضافاً إلى تصريحه في هامش الصفحة 9 من المقدّمة بأنّه قد «أفاد كثيراً» من كتاب «عبقرية الإِمام» للاُْستاذ عبّاس محمود العقّاد، بعد أن وصفه بقوله: «إنّ ممّا يقتضيه الإنصاف والاعتراف بالحقّ: إنّ خير ما كتب عن سيّدنا عليّ رضي اللّه عنه هو كتاب عبقرية الإِمام…».
وبعد:
فهذه هوامش وضعتها باختصار على أهمّ الفصول المتعلّقة من الكتاب بـ«المرتضى»، تبييناً للحقائق التي أنكرها أو أغفلها، وتنبيهاً على الاَْساليب الملتوية التي سلكها، متّبعاً أثر أئمّته السابقين، ومشيّداً لِما أسّسه أسلافه الاُول… لكنْ بدسّ السمّ في العسل… ومن اللّه الهداية في القول والعمل.
علي الحسيني الميلاني
1429