عليّ في المدينة
[6] المؤاخاة
جاء في الكتاب، الصفحة 39، تحت هذا العنوان ما نصّه:
«جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد: آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم بين عليّ بن أبي طالب وسهل بن حنيف.
وقال ابن كثير: آخى النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم بينه وبين سهل بن حنيف. وذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم آخى بينه وبين نفسه، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة لا يصحّ شيء منها لضعف أسانيدها وركّة بعض متونها».
أقول:
أوّلا: إنّ من يقرأ هذا النصّ المنقول عن ابن كثير، ابتداءً بكلمة «آخى النبي» وانتهاء بكلمة «متونها» ثم ينظر إلى وضع رقم الهامش على كلمة «متونها» والإرجاع في الهامش إلى البداية والنهاية 3 / 226 ـ 227، لا يفهم إلاّ كون هذا الكلام لابن كثير… .
إلاّ أنّا لَمّا راجعنا الجزء والصفحة المذكورتين، وجدنا عنوان ابن كثير هكذا: «فصل في مؤاخاة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بين المهاجرين والاَْنصار» ولم نجد فيه هذا النصّ المذكور في كتاب المؤلّف!!… ومن شاء فليراجع… .
وثانياً: إذا كان قد «ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم آخى بينه وبين نفسه» فلماذا لم تذكر عبارة ابن إسحاق ولم تعتمد على نقله، وأنت معتمد عليه في الموارد الاُْخرى حتّى مع الجهل برواة الخبر عنده؟!
وثالثاً: إنّ أُخوّة أمير المؤمنين عليه السّلام للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ثابتة قبل يوم المؤاخاة، ففي أخبار حديث يوم الإنذار: أنّ النبيّ جعله أخاً له… .
ومن ذلك ما أخرجه أحمد في «المسند» بسند صحيح، فقد رواه عن عفّان، ثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، عن علي رضي اللّه عنه، قال: جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ أو: دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ بني عبدالمطلّب، فيهم رهط كلّهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق.
قال: فصنع لهم مُدّاً من طعام، فأكلوا حتى شبعوا. قال: وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يُمسّ، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنّه لم يُمسّ أو لم يُشرب. فقال: يا بني عبدالمطّلب، إنّي بُعثت إليكم خاصةً وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ قال: فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت إليه وكنت أصغر القوم. قال: فقال: إجلس. قال ثلاث مرّات، كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي: إجلس، حتّى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي»(1).
وحديث المؤاخاة رواه المحدّثون وأرباب السير، فمن رواته من المحدثين: أحمد بن حنبل والترمذي والحاكم والبغوي والطبراني وابن عساكر وغيرهم، قال الزرقاني المالكي: «جاءت أحاديث كثيرة في مؤاخاة النبي لعلي، وقد روى الترمذي وحسنّه والحاكم وصحّحه عن ابن عمر: إنه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم قال لعلي: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى. قال: أنت أخي في الدنيا والآخرة»(2).
ثم إنّ الحافظ ابن حجر قال بشرح صحيح البخاري: «قال ابن عبدالبر: كانت المؤاخاة مرّتين، مرّة بين المهاجرين خاصّة وذلك بمكة، ومرّةً بين المهاجرين والأنصار» ثم ذكر بعض الأحاديث(3).
ولو أردنا إيراد نصوص المؤاخاة كما في المصادر القديمة المعتبرة، لطال بنا المقام، وبما ذكرناه كفاية.
وقال الحافظ ابن عبدالبر: «روينا من وجوه عن علي أنه كان يقول: أنا عبداللّه وأخو رسول اللّه، لا يقولها أحد غيري إلاّ كذّاب»(4).
]7[ زواج عليّ فاطمة
قال في الصفحة 39:
«وفي السنة الثانية من الهجرة زوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم بنته فاطمة عليّاً كرّم اللّه وجهه، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم لفاطمة: قد أنكحتك أحبّ أهل بيتي إليّ، ودعا لها، ونضح عليها من الماء».
أقول:
نَقَل هذا عن «إزالة الخفاء»: 254، وهذا الكتاب من تأليف الشيخ وليّ اللّه الدهلوي ـ المتوفّى سنة 1176 ـ ولست أدري لماذا لم ينقل عن الكتب القديمة الموثوق بها كما قال؟!
فقد ورد في المصادر القديمة المعتبرة عندهم أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال لها حين زوّجها منه:
«زوّجتك خير أُمتي، أعلمهم علماً، وأفضلهم حلماً، وأوّلهم سلماً»(5).
وفي زواجها من علي عليهم السّلام اُمورٌ نشير إلى بعضها:
الأوّل: إنّ هذا الزواج كان بأمر من اللّه، وقد روى ذلك جماعة كبيرة من أئمة الحديث من أهل السنّة كالطبراني وعنه الحافظ وقال: رجاله ثقات(6). ورواه: البيهقي والخطيب البغدادي وابن عساكر والحاكم وغيرهم.
والثاني: إنه قد خطبها من قبل أبو بكر وعمر، فردّهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قائلاً: «لم ينزل القضاء بعدُ»(7).
والثالث: إنه قد نبّه عليّاً على خطبتها بعض الأنصار، ولمّا حضر عند النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال له: مرحباً وأهلاً… وهذا ما رواه عدّة كبيرة من الأعلام منهم: ابن سعد صاحب الطبقات حيث روى عن بريدة: «قال نفر من الأنصار لعلي: عليك بفاطمة. فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، فسلّم عليه. فقال: ما حاجة ابن أبي طالب؟ قال: ذكرت فاطمة بنت رسول اللّه. قال: مرحباً وأهلاً. لم يزده عليهما. فخرج على أولئك الرهط من الأنصار ينظرونه، قالوا: ما ورائك؟ قال: ما أدري، غير أنه قال لي: مرحباً وأهلاً. قالوا: يكفيك من رسول اللّه احداهما، أعطاك الأهل والمرحب…»(8).
]8[ إغفال المؤلّف مواقف الإمام في الحروب
هذا… ولا يخفى على من يطالع كتاب المؤلّف جناياته على أحاديث فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام المرويّة في المصادر القديمة المعتبرة عند القوم، فهو بالإِضافة إلى عدم ذكره كثيراً من مواقف الإِمام عليه السّلام، وإلى جنايته على حديث يوم الإِنذار، وحديث المؤاخاة كما عرفت.
أغفل ذكر ما قاله النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في حقّه يوم الخندق(9).
ولم يذكر حديث الراية يوم خيبر بصورة كاملة(10).
وكذا حديث المنزلة الذي قاله النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في مواضع منها لدى خروجه إلى تبوك(11).
]9[ تعرّضه لخبر الغدير وليته لم يتعرَّض!
ولم يأت من خبر «حجّة الوداع وخطبة غدير خمّ» بشيء حيث عنون ذلك، إلاّ أنّه قال: «فلما وصل إلى غدير خمّ خطب وذكر فيها فضل عليّ رضي اللّه عنه وقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعاد من عاداه»!!
ثم إنّه أضاف بالنسبة إلى حديث «من كنت مولاه». قائلاً:
«وكان سبب ذلك أنّ بعض الناس كانوا قد اشتكوا عليّاً وعتبوا عليه، وتكلّم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنّها بعضهم جوراً وتضييقاً وبخلا، والصّواب كان مع عليٍّ في ذلك».
أقول:
وهذا نفس ما يتقوّل به النواصب في هذا المقام!!
غير إنّ المؤلّف تفضّل!! فقال: «والصّواب كان مع عليٍّ في ذلك» ليوهم أنّه ليس منهم!!
وعلى كلّ حال، فقد اضطرب المخالفون لأمير المؤمنين والمنكرون فضائله ومناقبه الصريحة في أفضليّته والدالّة على خلافته بعد النبي بلا فصل… تجاه ما ورد من ذلك في كتب السّنّة… .
وفي خصوص حديث الغدير… تجد بعضهم يقدح في سنده.
وآخر يسلّم السند ويقدح في الدلالة.
وثالث يرى أن لا جدوى في شيء من ذلك، فينكر وجود عليٍّ مع النبيّ في حجّة الوداع.
ورابع لَمّا وجد الحديث متواتراً ودلالته ثابتةً وأنّ وجود عليٍّ في الغدير لا ينكر.. عَمَدَ إلى دعوى أن الحديث وارد في قضيّة خاصّة ومناسبة معيّنة، فاضطربوا هذه المرّة في تحديد تلك القضيّة والمناسبة:
فبعضهم قال: إنّ قوماً نقموا على عليٍّ بعض أُموره… .
وبعضهم قال: إنّه وقع بينه وبين أُسامة بن زيد كلام… .
وبعضهم قال: إنّه وقع بينه وبين زيد بن حارثة، وهذا معناه ورود الحديث قبل حجّة الوداع بزمان طويل… .
فلينظر المنصف!! كيف يسعى أعداء الحق وراء إنكاره ولو بارتكاب المستحيل!!
لقد كان على المؤلّف ـ الذي التزم بالنقل عن الكتب الموثوق بها المعتمدة!! وتصدّى لأن يكتب عن حسن نيّة! سيرة شخصيّة مظلومة ـ أن يبذل جهداً ولو قليلا فيبحث عن واقع القضيّة أو يترك قوله: «وكان سبب ذلك…» أو ينقل ـ في الأقلّ ـ ما جاء في سيرة ابن هشام التي أكثر من النقل عنها والإِرجاع إليها، فإنّ الذي جاء فيها هكذا:
«قال ابن إسحاق: وحدّثني يحيى بن عبداللّه بن عبدالرحمن بن أبي عمرة، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، قال: لَمّا أقبل عليٌّ رضي اللّه عنه من اليمن ليلقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم بمكّة، تعجّل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسى كلّ رجل من القوم حلّة من البزّ الذي كان مع عليٍّ رضي اللّه عنه، فلمّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك! ما هذا؟! قال: كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك! انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، قال: فانتزع الحلل من الناس، فردّها في البزّ. قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
قال ابن إسحاق: فحدّثني عبداللّه بن عبدالرحمن بن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمّد بن كعب بن عجرة، عن عمّته زينب بنت كعب ـ وكانت عند أبي سعيد الخدري ـ عن أبي سعيد الخدري، قال: اشتكى الناس عليّاً رضي اللّه عنه، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم فينا خطيباً، فسمعته يقول: لا تشكوا عليّاً، فواللّه إنّه لأخشن في ذات اللّه. أو: في سبيل اللّه»(12).
فهذا هو الذي قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في المناسبة التي أشار إليها المؤلّف، حسب ما في سيرة ابن هشام، الذي هو من أهمّ مصادره… لا حديث الغدير… .
إنّه لا ارتباط بين حديث الغدير وما يذكره القوم أبداً، إنّ حديث الغدير كان بأمر من اللّه سبحانه للرّسول الأعظم صلّى اللّه عليه وآله ـ لمّا خرج من منى متوجّهاً إلى المدينة ـ إذ جاءه الخطاب: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ)(13).
فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: «نزلت هذه الآية: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) على رسول اللّه يوم غدير خم في علي بن أبي طالب»(14).
ومن هنا، فقد رووا عن عبداللّه بن مسعود أنه قال: «كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (أن علياً مولى المؤمنين) وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ)(3).
وللتفصيل في خبر الغدير يراجع الكتب المفصّلة((15)).
على أنّا لو سلّمنا صدور حديث الغدير من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، بسبب شيء من القضايا المزعومة، فإنّ الحديث: «ألست أوْلى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» وقد نصَّ غير واحد من محقّقي القوم، كالقاضي عبدالجبّار المعتزلي ـ في مقام الجواب عن الاستدلال بحديث الغدير ـ بأنّ كلّ ذلك لو صحَّ وكان الخبر خارجاً عليه، فلم يمنع من التعلّق بظاهره وما يقتضيه لفظه، فيجب أن يكون الكلام في ذلك دون بيان السبب الذي وجوده كعدمه.
قلت: وكيف يكون مانعاً عن التعلّق بظاهره وما يقتضيه لفظه، والحال أنّ كبار الصحابة لم يعبأوا بالسبب، وفهموا من الحديث ما هو ظاهر فيه، فقال أبو بكر وعمر لعليٍّ: «بخ بخ…»(16) وقال حسان بن ثابت في معناه قصيدته المشهورة(17)، واغتاظ بعضهم من مدلوله وسأل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع…(18).(19)
فلو كان كلام النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في مناسبة خاصّة وبسبب معيّن وخطاباً لشخص أو أشخاص فقط… لَما كان ذلك كلّه.
هذا موجز البيان في هذا المقام… والتفصيل موكول إلى محلّه.
]10[ وفاة الرسول
وهذا آخر عنوان عناوين الفصل الثاني من كتابه، وقد تطرّق هنا إلى صلاة أبي بكر، وزعم أنّها «كانت بأمر من النبيّ، وأنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خرج وجلس إلى جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلّي قائماً ورسول اللّه يصلّي قاعداً»!!
أقول:
قد حقّقتُ في رسالة مستقلّة أنّ صلاة أبي بكر لم تكن بأمر منه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وأنّه خرج ونحّاه عن المحراب وصلّى بالمسلمين بنفسه.
ثمّ إنّه لم يتعرّض هنا لخبر سرية اُسامة، وأنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أبقى عنده عليّاً وأمر بخروج غيره ـ وفيهم المشايخ ـ مع أُسامة!
وإن كنت في ريب من قولنا هذا، فهذه عبارة الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: «وكان ممّن انتدب مع أُسامة كبار المهاجرين والأنصار، منهم: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم، فتكلّم في ذلك قوم… ثمّ اشتدّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وجعه فقال: أنفذوا بعث أُسامة.
وقد روي ذلك عن الواقدي وابن سعد وابن إسحاق وابن الجوزي وابن عساكر»(20).
ثم إن المؤلّف لم يذكر مناجاة النبيّ قبيل وفاته مع عليّ عليه السلام، وأنّه توفّي ورأسه في حجر عليٍّ!! هذا الخبر الثابت المتّفق عليه بين المسلمين:
قالت أمّ سلمة رضي اللّه عنها: «والذي أحلف به أنْ عليّ لأقرب الناس عهداً برسول اللّه… فأكبَّ عليه عليٌّ، فجعل يسارّه ويناجيه، ثمّ قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم من يومه ذلك، فكان أقرب الناس به عهداً»(21).
وقالت عائشة: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم وهو في بيتها لمّا حضره الموت: ادعوا لي حبيبي، فدعوت له أبا بكر، فنظر إليه ثمّ وضع رأسه، ثمّ قال: ادعوا حبيبي، فدعوت له عمر، فلمّا نظر إليه وضع رأسه، ثمّ قال: ادعوا لي حبيبي، فقلت، ويلكم ادعوا له عليّاً فواللّه ما يريد غيره. فلمّا رآه أخرج الثوب الذي كان عليه ثمّ أدخله معه، فلم يزل محتضنه حتّى قبض ويده عليه»(22).
هذا، ولا يخفى ما اشتمل عليه هذا الخبر من فوائد.
ولم يتعرَّض المؤلّف كذلك لتجهيز الرسول صلّى اللّه عليه وآله ودفنه وهو يتكلّم عن «وفاة الرّسول» بقدر ما يتعلَّق بأمير المؤمنين، والمفروض أن الكتاب في سيرته!! وإليك بعض الأحاديث في المقام من أوثق مصادر القوم:
أخرج ابن سعد بسنده عن يزيد بن بلال عن علي قال: «أوصى النبيّ صلى اللّه عليه ]وآله[ ألاّ يغسله أحد غيري، فإنه لا يرى أحد عورتي إلاّ طمست عيناه، قال علي: فكان الفضل وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر وهما معصوبا العين، قال علي: فما تناولت عضواً إلا كأنما يقلّبه معي ثلاثون رجلاً»(23).
وأخرج أحمد بسنده عن ابن عبّاس قال: «لما اجتمع القوم لغسل رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم وليس في البيت إلا أهله، عمّه العباس بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن العباس واُسامة بن زيد بن حارثة وصالح ومولاه، فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء الباب أوس بن خولي الأنصاري، ثم أحد بني عوف بن الخزرج ـ وكان بدرياً ـ علي بن أبي طالب، فقال له: يا علي نشدتك اللّه وحظّنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلم قال: فقال له علي: أدخل، فدخل فحضر غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ولم يل من غسله شيئاً قال: فأسنده علي عليه السّلام إلى صدره وعليه قميصه، وكان العباس والفضل وقثم يقلّبونه مع علي بن أبي طالب، وكان أسامة بن زيد وصالح مولاهما يصبّان الماء، وجعل علي يغسله ولم ير من رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم شيئاً مما يراه من الميت وهو يقول: بأبي أنت واُمي، ما أطيبك حيّاً وميّتاً، حتى إذا فرغوا من غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ وكان يغسل بالماء والسّدر ـ جففوه ثم صنع به ما يصنع بالميت، ثم أدرج في ثلاثة أثواب أبيضين وبرد حبرة، ثم دعا العباس رجلين فقال: ليذهب أحدكما إلى أبي عبيدة بن الجراح ـ وكان أبو عبيدة يضرح لأهل مكة ـ وليذهب الآخر إلى أبي طلحة بن سهل الأنصاري ـ وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة ـ قال: ثم قال العباس لهما حين سرّحهما: اللهم خر لرسولك. قال: فذهبا، فلم يجد صاحب أبي عبيدة أبا عبيدة، ووجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة، فجاء به فلحد لرسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلم»(24).
وأخرج أبو نعيم بسنده عن جابر بن عبداللّه وابن عباس، قالا: لمّا نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ…)… فقال علي رضي اللّه عنه: يا رسول اللّه، إذا أنت قبضت فمن يغسلك؟ ومن يصلّي عليك؟ ومن يدخلك القبر؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم: يا علي، أمّا الغسل، فاغسلني أنت، وابن عباس يصبّ عليّ الماء وجبريل ثالثكما، فإذا أنتم فرغتم من غسلي فكفّنوني في ثلاثة أثواب جدد وجبريل عليه السّلام يأتيني بحنوط من الجنة، فإذا أنتم وضعتموني على السرير فضعوني في المسجد واخرجوا عني، فإن أوّل من يصلّي عليّ الربّ عزّ وجلّ من فوق عرشه، ثم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم الملائكة زمراً زمراً، ثم ادخلوا، فقوموا صفوفاً لا يتقدم عليَّ أحد… .
فقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، فغسّله علي بن أبي طالب، وابن عباس يصبّ عليه الماء وجبريل عليه السّلام معهما، وكفّن بثلاثة أثواب جدد، وحمل على السّرير، ثم أدخلوه المسجد ووضعوه في المسجد، وخرج الناس عنه، فأوّل من صلّى عليه الربّ من فوق عرشه وتقدّس، ثم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم الملائكة زمراً زمراً، قال علي: ولقد سمعنا في المسجد همهمة ولم نر لهم شخصاً، فسمعنا هاتفاً يهتف وهو يقول: اُدخلوا رحمكم اللّه فصلّوا على نبيّكم، فدخلنا فقمنا صفوفاً كما أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم فكبّرنا بتكبير جبريل وصلّينا على رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله [وسلّم بصلاة جبريل، ما تقدم منّا أحد على رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، ودخل القبر علي بن أبي طالب عليه السّلام…»(25).
وأخرج الهيثمي قال: «وعن ابن عباس: إن النبي صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ثقل وعنده عائشة وحفصة، إذ دخل علي، فلما رآه النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم رفع رأسه ثم قال: أدن منّي أدن منّي، فأسنده إليه، فلم يزل عنده حتى توفّي، فلما قضى قام علي وأغلق الباب، وجاء العباس ومعه بنو عبدالمطلب فقاموا على الباب، فجعل علي يقول: بأبي أنت واُمي طبت حيّاً وطبت ميّتاً، وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها فقال: إيهاً دع حنيناً كحنين المرأة وأقبلوا على صاحبكم، قال علي: أدخلوا عليّ الفضل بن العباس، فقالت الأنصار: نشدناكم باللّه ونصيبنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله [وسلّم، فأدخلوا رجلاً منهم يقال له أوس بن حول يحمل جرّة باحدى يديه، فسمعوا صوتاً في البيت: ولا تجرّدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم واغسلوه كما هو في قميصه، فغسّله علي يدخل يده من تحت القميص، والفضل يمسك الثوب عنه، والأنصاري ينقل الماء، وعلى يد علي خرقة يدخل يده تحت القميص»(26).
(1) مسند أحمد 1 / 159.
(2) شرح المواهب اللدنية 1 / 273. وأنظر: صحيح الترمذي 5 / 595 والمستدرك على الصحيحين 3 / 14 وكنز العمال 11 / 610 و 13 / 105.
(3) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7 / 217.
(4) الاستيعاب 3 / 1099.
(5) مسند أحمد 5 / 26، مجمع الزوائد 9 / 101 و114، الاستيعاب 3 / 1099، الرياض النضرة في مناقب العشرة 2 / 194.
(6) مجمع الزوائد 9 / 204.
(7) الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة 2 / 183 وغيره.
(8) الطبقات الكبرى 8 / 12.
(9) المستدرك على الصحيحين 3 / 32، كنز العمّال 11 / 623، تاريخ مدينة دمشق 50 / 333.
(10) المستدرك على الصحيحين 3 / 38، عمدة القاري 14 / 214، تاريخ مدينة دمشق 42 / 108.
(11) مجمع الزوائد 9 / 109، مسند أحمد 1 / 173، صحيح مسلم 7 / 120.
(12) سيرة ابن هشام 2 / 603.
(13) سورة المائدة: الآية 67.
(14 و 3) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2 / 298.
(15) راجع كتاب: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار، الأجزاء 6 ـ 9.
(16) الأمالي للصدوق: 50، الموطأ 2 / 992، رقم 24، شواهد التنزيل 1 / 201، رقم 210.
(17) الفصول المختارة: 290، المناقب للخوارزمي: 136.
(18) سورة المعارج: الآية 2.
(19) نظم درر السمطين: 93، شواهد التنزيل 2 / 381.
(20) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8 / 124.
(21) مسند أحمد 6 / 300، المستدرك على الصحيحين 3 / 138، ابن عساكر 3 / 16.
(22) الرياض النضرة 2 / 180، ابن عساكر 3 / 14، ذخائر العقبى :72.
(23) الطبقات الكبرى ج 2 ق 2 ص 61.
(24) مسند أحمد 1 / 260 وسبب عدم وجدانه أبا عبيدة معلوم، فقد كان في السقيفة!
(25) حلية الأولياء 4 / 73.
(26) مجمع الزوائد 9 / 36.