حديث الإنذار يوم الدار
فيضطرّ المؤلّف لأنْ يتعرّض لحديث الإنذار في يوم الدار، لكنْ باختصار!! وفي الهامش!! ثم التشكيك في صحّته!! فيقول:
«وقد جاءت قصّة ضيافة بني عبدالمطّلب وصنع الطعام لهم، وقيام عليّ بن أبي طالب بذلك على أثر نزول آية (وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ)ودعوة رسول اللّه بني عبدالمطّلب إلى الإِسلام، وردّ أبي لهب على ذلك رداً قبيحاً، واستجابة عليٍّ ومؤازرته لرسول اللّه، وما تكلّم به الرسول، في بعض كتب السيرة، وسردها ابن كثير بطولها في كتابه البداية والنهاية 3 / 39 ـ 40، وتكلّم في بعض رواتها، وفيها ما يشكّك في صحّتها وضبطها».
فأقول للمؤلّف:
إنّ قصّة يوم الإِنذار وحديث بدء الدعوة المحمّديّة، من أهمّ الاَْحداث الخالدة في تاريخ الإِسلام، ومن أسمى أيام أمير المؤمنين وأفضل مواقفه في كلّ حياته الكريمة وسيرته المشرّفة… فكيف تغفل ذكرها كما هي واردة في «الكتب القديمة الموثوق بها»، كما وصفتَ تلك الكتب والتزمت بالنقل عنها؟!
أهكذا يكتب عن سيرة «هذه الشخصية المظلومة أو المهضومة حقّها، شخصيّة سيّدنا عليّ بن أبي طالب، التي تراكمت عليها حجب كثيفة على مدى القرون والاَْجيال، لأَسباب مذهبية طائفيّة ونفسيّة، ولم ينصف لها حقّ الإِنصاف» كما عرفتها؟!
وكيف تقول: «وقد جاءت قصّة… في بعض كتب السّيرة» والحال أنَّ الشيخ عليّ المتّقي الهندي وحده أوردها في كتابه «كنز العمّال» ـ وهذا الكتاب من المصادر التي نقلت عنها في كتابك ـ عن: أحمد بن حنبل، والطحاوي، وابن إسحاق، ومحمّد بن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والضياء المقدسي؟!(1)
ثمّ إِنّ المتّقي ينصُّ على أنّ ابن جرير الطبري صحّح هذا الحديث، كما أنّ الضياء المقدسي يراه صحيحاً لأَنّه أخرجه في كتابه «المختارة» الذي التزم فيه بالصحّة، فما بالك تركت كلّ هؤلاء وقلتَ: «وسردها ابن كثير بطولها في كتابه البداية والنهاية 3 / 39 ـ 40، وتكلّم في بعض رواتها، وفيها ما يشكّك في صحّتها وضبطها»؟!!
هذا، ولنورد نصّ الرواية عن ابن إسحاق وابن جرير وجماعة:
«عن عليٍّ، قال: لَمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم (وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ) دعاني رسول اللّه فقال: يا عليّ، إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الاَْقربين، فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي مهما أُناديهم بهذا الاَْمر أرى منهم ما أكره، فصمَتُّ عليها، حتى جاءني جبريل فقال: يا محمّد، إنّك إنْ لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك.
فاصنع لي صاعاً من طعام، واجعل عليه رِجل شاة، واجعل لنا عُسّاً من لبن، ثم اجمع لي بني عبدالمطّلب حتى أُكلّمهم وأُبلّغ ما أُمرت به.
ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب، فلمّا وضعته تناول النبي جشب حزبة من اللحم، فشقّها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: كلوا بسم اللّه.
فأكل القوم حتى نهلوا عنه، ما نرى إلاّ آثار أصابعهم، واللّه إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدّمت لجميعهم.
ثم قال: إسقِ القوم يا عليّ، فجئتهم بذلك العسّ، فشربوا منه حتّى رووا جميعاً، وأيم اللّه إن كان الرجل منه ليشرب مثله.
فلمّا أراد النبيّ أن يكلّمهم بَدرَه أبو لهب إلى الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم. فتفرّق القوم، ولم يكلّمهم النبيّ.
فلمّا كان الغد فقال: يا عليّ، إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أنْ أُكلّمهم، فعد لنا مثل الذي صنعت بالاَْمس من الطعام والشراب، ثم اجمعهم لي.
ففعلت ثم جمعتهم. ثم دعاني بالطعام فقرّبته ففعل به كما فعل بالاَْمس، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا، ثم تكلّم النبيّ فقال:
يا بني عبدالمطّلب، إنّي ـ واللّه ـ ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أنْ أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا؟
فقلت ـ وأنا أحدثهم سنّاً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً ـ أنا يا نبيّ اللّه، أكون وزيرك عليه.
فأخذ برقبتي فقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لِعَليّ.
ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل»(2).
في هذه الرواية دلالة على:
1 ـ إنّ عليّاً عليه السلام ـ على صغر سنّه ـ كان في أعلى درجات الوعي والنضج، ولا يقاس به أحدٌ من الّذين أسلموا من بعده… .
2 ـ إنّ عليّاً عليه السلام هو الذي صنع الطعام ـ بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ وهو الذي دعا القوم وأطعمهم وسقاهم… .
3 ـ إنّ عليّاً عليه السلام أخو النبيّ ووصيّه وخليفته في المسلمين.. وإنّه يجب إطاعته والتسليم له عليهم جميعاً.. منذ ذلك الحين… .
ولهذه الاُْمور ـ لا غير ـ يشكّك بعض القوم في صحّة الخبر.. كابن كثير!… وينكر ابن تيميّة وجوده في الصحاح والمسانيد بالرغم من وجوده في مسند أحمد!… ويحذفه محمد حسين هيكل من كتابه في الطبعة الثانية بعد أنْ أثبته في الاُْولى!… ويستهين به مؤلّفنا في كتابه الذي ألّفه أداءً لحقّ المرتضى!!… .
]5[ بين عليّ وأبي طالب
وهذا عنوان يقصد به الغضّ من أمير المؤمنين عليه السّلام، وقد جاء في الصفحة 30 تحت هذا العنوان ما نصّه:
«قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة، وخرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب…».
أقول:
أوّلا: كيف ينقل هذا عن ابن إسحاق، ويعتمد عليه، ولا ينقل عنه ـ ولا عن غيره ـ قصّة يوم الإِنذار؟!
وثانياً: كيف يعتمد على مثل هذا الخبر المنقول عن «بعض أهل العلم» ولم يعلم من هو؟! بل يعتمد على تكلّم ابن كثير في بعض رواة حديث يوم الإِنذار مع وروده في مسند أحمد، ومع تصحيح الطبري وغيره له؟!
وثالثاً: لقد تقدَّم عن عدّة من المصادر القديمة أن أبا طالب عليه السّلام كان يأمر أمير المؤمنين بملازمة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ومتابعته، وكذا ولده جعفر رضي اللّه عنه، بل بني هاشم وعبدالمطّلب أجمعين.
وجاء في المصادر المعتبرة عند أهل السنّة ما نصّه:
لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال عليه السلام: «يا معشر قريش، أنتم صفوة اللّه من خلقه وقلب العرب، فيكم السيد المطاع، وفيكم المقدام الشجاع الواسع الباع، وأعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلا أحرزتموه، ولا شرفاً إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس فضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، والناس لكم حرب، وعلى حربكم إلب، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنيّة (يعني الكعبة) فإن فيها لمرضاة للربّ، وقواماً للمعاش وثباتاً للوطاة، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم، أجيبوا الداعي وأعطوا الطائل، فإن فيهما شرف الحياة والمماة، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيها محبة في الخاص ومكرمة في العام.
وإني أوصيكم بمحمّد خيراً فإنه الأمين في قريش، والصِّدِّيقُ في العرب، وهو الجامع لكلّ ما أوصيتكم به، وقد جاءنا بأمر قبله الجَنانُ، وأنكره اللّسان مخافة الشنآن.
وَايْمُ اللّه، كأني أنظر إلى صعاليك قريش وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدّقوا كلمته، وعظّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودورها خراباً، وضعفاؤها أرباباً، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم، كونوا له ولاة ولحزبه حماة، واللّه لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدّة وفي أجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدافعت عنه الدواهي»(3).
(1) كنز العمّال 13 / 129 و 131 و 149 و 174.
(2) كنز العمّال 13 / 131 ـ 133.
(3) الروض الأنف 1 / 259، المواهب اللدنّيّة بالمنح المحمديّة 1 / 72، السيرة الحلبيّة 1 / 375 وغيرها.