مكابرات أُخرى:
فظهر أنّ ما ذكروه إن هو إلاّ مكابرات عن قبول الحقّ، لأنّ السورة كما تقدّم مدنيّة لا مكّية، ولأنّ الاستدلال إنّما هو بأصل الخبر لا بالأشعار الواردة في أحد ألفاظه… لو سلّمنا ورد الإشكال فيها.
* وكأنّ ابن تيمية يعلم بأنّ ما ذكره لا يكفي لردّ الحديث، فيضطرّ إلى أن يكذب ; فينفي وجود خادمة لأهل البيت اسمها « فضّة » ليكون دليلا على كذب أصل الخبر!
إنّه يقول: « إّ عليّاً وفاطمة لم يكن لهما جارية اسمها فضّة، بل ولا لأحد منم أقارب النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم، ولا نعرف أنّه كان بالمدينة جارية اسمها فضّة، ولا ذكر ذلك أحد من أهل العلم، الّذين ذكروا أحوالهم دقّها وجلّها، ولكن فضّة هذه بمنزلة ابن عقب الذي يقال: إنّه كان معلّم الحسن والحسين، وأنّه أُعطي تفّاحةً كان فيها علم الحوادث المستقبلة، ونحو ذلك من الأكاذيب التي تروج على الجهّال… وهكذا هذه الجارية فضّة… »(1).
أقول:
انظر إصراره على التكذيب بقلّة حياء… وهو الكاذب!!
وإليك عبارة الحافظ ابن الأثير: « فضّة النوبيّة، جارية فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم: أخبرنا أبو موسى كتابةً… » فأورد الحديث بإسناده عن ابن عبّاس(2).
وعبارة الحافظ ابن حجر العسقلاني: « فضّة النوبيّة، جارية فاطمة الزهراء… أخرج أبو موسى في الذيل، والثعلبي في تفسير سورة (هل أتى)، من طريق عبدالله بن عبدالوهّاب الخوارزمي ابن عمّ الأحنف… » قال: « وذكر ابن صخر في فوائده وابن بشكوال في كتاب المستغيثين من طريقه، بسند له من طريق الحسين بن العلاء، عن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ، عن أبيه، عن عليّ: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخدم فاطمة ابنته جاريةً اسمها فضّة النوبيّة، وكانت تشاطرها الخدمة، فعلّمها رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم دعاءً تدعو به… »(3).
هذا، وكأنّ بعض أتباع ابن تيميّة يقصرون عنه في الصلافة، فلا يقلّدونه في كلّ شيء، خوفاً من الفضيحة!!
* ومكابرة أُخرى، تجدها عند ابن روزبهان الخنجي ـ وهو الآخر صاحب الردّ على العلاّمة الحلّي في كتابه نهج الحقّ.
إنّه يقول: « ذكر بعض المفسّرين في شأن نزول السورة ما ذكره، ولكن أنكره على هذه الرواية كثير من المحدّثين وأهل التفسير، وتكلّموا في أنّه هل يجوز أن يبالغ الإنسان في الصدقة إلى هذا الحدّ، ويجوّع نفسه وأهله، حتّى يشرف على الهلاك؟ وقد قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)(4) والعفو ما كان فاضلا من نفقة العيال، وقال رسول الله الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم: خير الصدقة ما يكون صفواً عفواً »(5).
أقول:
فهو لا يدّعي كون السورة مكّيّة، ولا يدّعي كون الحديث موضوعاً… وإنّما يشكّك فيه من هذه الناحية، ولو كان هناك ومجالٌ لأن يقال مثل هذا في مقابلة استدلال الإماميّة لقاله المتأخّرون والمعاصرون، الّذين لا يوجد عندهم إلاّ الاجترار والتكرار!!
وهذا التشكيك واضح الاندفاع نقضاً وحلاًّ، ويكفي للجواب عنه ما تقدّم في الفوائد.
(1) منهاج السُنّة 7/182 ـ 183 الطبعة الحديثة.
(2) أُسد الغابة في معرفة الصحابة 5/530.
(3) الإصابة في معرفة الصحابة 4/387.
(4) سورة البقرة: 2:219.
(5) إبطال الباطل. راجع: إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل 3/170.