بين «الدار» و «الغدير»
وما فتئ ينتهز الفرص والمناسبات… في الجماعات والجمعات… وفي الحروب والغزوات… ليعرب عن هذه الحقيقة ويبلّغها بالألفاظ والكلمات، الدالّة عليها، بمختلف الدلالات… .
فتارةً يشبّهه بالأنبياء ويقول:
«من أراد أنْ ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى موسى في مناجاته، وإلى عيسى في سمته، وإلى محمّد في تمامه وكماله وجماله، فلينظر إلى هذا الرجل المقبل.
فتطاول الناس أعناقهم فإذا هم بعليّ…»(1).
واُخرى ينزّله من نفسه منزلة هارون من موسى ويقول له:
«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(2).
وثالثةً: يركّز على توفّر أهمّ الصفات المعتبرة في الإمامة فيه، وهي الأعلمية ويقول:
«أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها»(3).
ورابعةً: يُعلن عن كونه أحبّ الخلق إلى اللّه وإليه… وذلك ممّا لا ريب في استلزامه الأفضليةً فالإمامة… في قضية طير مشويّ فأتي به إليه ليأكله… فيقول:
«اللّهمّ إيتني بأحبّ خلقك إليك وإلَىَّ يأكل معي من هذا الطائر».
فجاء أبو بكر… فردّه وجعل يدعو: اللّهمّ… .
فجاء عمر… فردّه، وجعل يدعو: اللّهمّ… .
فجاء عليّ… فأكل معه(4).
وخامسةً: يعطيه الراية في وقعة خيبر بعد أن عاد الشيخان منهزمين ويقول:
«لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يفتح اللّه على يديه، يحبّ اللّه ورسوله، ويحبّه اللّه ورسوله».
فبات الناس ليلتهم أيّهم يُعطى، فغدوا كلّهم يرجوه.
فقال: أين عليّ؟
فقيل: يشتكي عينيه.
فبصق في عينيه ودعا له، فبرئ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، وكان الفتح على يديه(5).
وسادسة: يبعثه لإبلاغ سورة براءة ويعزل أبا بكر عن ذلك بعد أنْ أمره به، فيقول:
«لا ينبغي لأحد أنْ يبلِّغ هذا إلاّ رجل من أهلي»(6).
وهكذا… .
حتى كان يوم الغدير، فأمر بأنْ يبلّغ ـ وهو في أواخر حياته ـ ما كان يبلّغه منذ أوائل دعوته… .
وخبر الغدير وحديثه… مِمّا أذعن بثبوته علماء المسلمين ونصّوا على تواتره وألّفوا فيه الكتب… بل إنّه من ضروريّات التاريخ، حتى كاد أن يكون التشكيك في ثبوته بمنزلة التشكيك في وجود النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ونبوّته… .
(1) هذا الحديث (حديث الأشباه) رواه: عبدالرزّاق بن همام، أحمد بن حنبل، أبو حاتم الرازي، ابن شاهين، الحاكم، ابن مردويه، أبو نعيم، البيهقي، ابن المغازلي، الديلمي، المحبّ الطبري، وجماعة آخرون غيرهم. وقد بحثنا عنه سنداً ودلالةً في كتابنا (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار).
(2) هذا الحديث (حديث المنزلة) رواه: البخاري، مسلم، أحمد، الطيالسي، ابن سعد، ابن ماجة، ابن حبّان، الترمذي، الطبري، الحاكم، ابن مردويه، أبو نعيم، الخطيب، ابن عبدالبرّ، ابن حجر العسقلاني… وغيرهم… وقد بحثنا عنه سنداً ودلالةً في كتابنا (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار).
(3) هذا الحديث (حديث مدينة العلم) رواه: عبدالرزّاق بن همام، يحيى بن معين، أحمد بن حنبل، الترمذي، البزّار، الطبري، الطبراني، الحاكم، ابن مردويه، أبو نعيم، الماوردي، الخطيب، ابن عبدالبرّ، البيهقي، الديلمي، ابن عساكر، ابن الأثير، النووي، المزي، العلائي، ابن حجر العسقلاني… وغيره. وهو موضوع الجزء العاشر وتالييه من كتابنا (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار).
(4) هذا الحديث (حديث الطّير) رواه: أبو حنيفة، أحمد بن حنبل، أبو حاتم الرازي، الترمذي، البزّار، النسائي، أبو يعلى، الطبري، البغوي، الطبراني، الدّارقطني، الحاكم، ابن مردويه، أبو نعيم، البيهقي، الخطيب، ابن عبدالبرّ، ابن عساكر، ابن الأثير، المزي، الذهبي، ابن حجر العسقلاني… وغيرهم. وهو أحد الأحاديث المبحوث عنها سنداً ودلالةً في كتابنا (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار).
(5) هذا الحديث (حديث الراية) رواه: البخارى ومسلم، في غير موضع من صحيحيهما، منها: في باب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وأحمد في مسنده 5 / 322، والنسائي في الخصائص: 6، وابن سعد 2 / 80 ، وابن عبدالبرّ 2 / 450 والبيهقي في سننه 6 / 362، والمتّقي في كنز العُمّال 5 / 284، والخطيب في تاريخه 8 / 5، وابن ماجة، والحاكم، والهيثمي… وغيرهم. ولنا فيه رسالة هي حلقة من سلسلتنا.
(6) هذا الحديث رواه: الترمذي 2 / 183، النسائي: 20، الحاكم النيشابوري 3 / 51، أحمد بن حنبل 1 / 3 و 151، الهيثمي 9 / 119، المتّقي 1 / 246، السيوطي في الدرّ المنثور 3 / 209 عن عدّة من الحفّاظ.