آراء العلماء في المسند:
وقال جماعة من أعلام الحفّاظ بصحّة أحاديث المسند كلّها، ومنهم:
الحافظ أبو موسى المديني.
وقاضي القضاة السبكي.
والحافظ أبو العلاء الهمداني.
والحافظ عبدالمغيث بن زهير الحربي، وله في ذلك مصنَّف.
والحافظ ابن الجوزي، عدّ المسند من دواوين الإسلام، وذكره قبل الصحيحين. وهذه عبارته في مقدمة كتابه الموضوعات:
«فمتى رأيت حديثاً خارجاً عن دواوين الإسلام كالموطّأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبي دواد والترمذي ونحوها، فانظر فيه. فإنْ كان له نظير في الصحاح والحسان فرتّب أمره، وإنْ ارتبت فيه فرأيته يباين الأصول فتأمّل رجال اسناده، واعتبر أحوالهم من كتابنا المسمّى بالضعفاء والمتروكين، فإنك تعرف وجه القدح فيه»(1).
وقاضي القضاة السبكي، في كتابه الذي ألّفه في زيارة قبر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وتعرّض فيه للردّ على ابن تيمية، قال في البحث حول حديث: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» بعد ذكر أنه في مسند أحمد: «وأحمد رحمه اللّه لم يكن يروي إلاّ عن ثقة، وقد صرّح الخصم ـ يعني ابن تيمية ـ بذلك، في الكتاب الذي صنّفه في الردّ على البكري، بعد عشر كراريس منه، قال: إنّ القائلين بالجرح والتعديل من علماء الحديث نوعان، منهم من لم يرو إلاّ عن ثقة عنده كمالك… وأحمد بن حنبل… .
وقد كفانا الخصم مؤنة تبيين أن أحمد لا يروي إلاّ عن ثقة.
وحينئذ، لا يبقى له مطعن فيه»(2).
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي: «قال شيخ الإسلام ـ يعني ابن حجر العسقلاني ـ في كتابه: تعجيل المنفعة في رجال الأربعة: ليس في المسند حديث لا أصل له إلاّ ثلاثة أحاديث أو أربعة، منها حديث عبدالرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفاً، قال: والإعتذار عنه أنه ممّا أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهواً، أو ضرب وكتب من تحت الضرب».
قال السيوطي: «وقال في كتابه: تجريد زوائد مسند البزار: إذا كان الحديث في مسند أحمد لم نعزه إلى غيره من المسانيد».
قال: «وقال الهيثمي في زوائد المسند: مسند أحمد أصحّ صحيحاً من غيره».
قال: «وقال ابن كثير: لا يوازي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته…».
قال: «وقال الحسيني في كتابه التذكرة في رجال العشرة: عدة أحاديث المسند أربعون ألفاً بالمكرر»(3).
وقال الدكتور أحمد عمر هاشم ـ استاذ الحديث بجامعة الأزهر ـ في تعليقه على كتاب تدريب الراوي في هذا الموضع: «وللشيخ ابن تيميّة في ذلك كلام حسن، فقد ذكر في التوسّل والوسيلة: إنه إنْ كان المراد بالموضوع ما في سنده كذّاب. فليس في المسند من ذلك شيء. وإنْ كان المراد ما لم يقله النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم لغلط راويه وسوء حفظه، ففي المسند والسنن من ذلك كثير».
7 ـ توثيق عطيّة من قبل الأئمة:
هذا، وبالإضافة إلى كلّ ما تقدّم… نجد في ترجمة عطّية:
وثّقه ابن سعد وقال: له أحاديث صالحة.
وقال الدوري عن ابن معين: صالح.
ووثّقه الحافظ سبط ابن الجوزي(4).
وقال الحافظ أبو بكر البزار: يعدّ في التشيع، روى عنه جلّة الناس.
وأبو حاتم وابن عدي ـ وإنْ ضعّفاه ـ قالا: يكتب حديثه.
8 ـ طعن بعضهم في عطيّة بسبب تشيّعه:
ثم إنّ المستفاد من كلمات القوم بترجمة عطية: إن السبب العمدة في تضعيفه هو تشيّعه، فعندما نراجع تهذيب التهذيب نجد:
إن الجوزجاني لم يضعّفه وإنما قال: «مائل». وعن ابن عدي: «قد روى عن جماعة من الثقات، ولعطيّة عن أبي سعيد أحاديث عدّة وعن غير أبي سعيد، وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وكان يعدّ مع شيعة أهل الكوفة». والبزار لم يضعّفه وإنما ذكر تشيّعه ونصَّ على أنه مع ذلك فقد روى عنه جلّة الناس، والساجي قال: «ليس بحجة» ولم يذكر لقوله دليلا إلاّ: «كان يقدّم عليّاً على الكلّ».
وقال ابن حجر: «قال ابن سعد: خرج عطيّة مع ابن الأشعث، فكتب الحجّاج الى محمّد بن القاسم أنْ يعرضه على سبّ علي، فإنْ لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته، فاستدعاه فأبى أنْ يسبّ، فأمضى حكم الحجاج فيه، ثم خرج إلى خراسان، فلم يزل بها حتى ولي عمر بن هبيرة العراق، فقدمها فلم يزل بها إلى أنْ توفي سنة 111».
9 ـ النظر في الطاعن وكلامه:
لقد ضُرب الرجل أربعمائة سوطاً وحلقت لحيته… بأمر من الحجّاج… ثم جاء من لسانه وسوط الحجاج شقيقان فقال عنه: «مائل» أو ضعّفه، أو اتّهمه… وما ذلك كلّه إلاّ لأنّه أبى أنْ يسبَّ عليّاً…!!
لقد عرفت في المقدمة أنّ التشيع لا يضرّ بالوثاقة، كما نصّ عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في (شرح البخاري)، وبنى عليه في غير موضع، منها في ترجمة خالد بن مخلّد حيث قال: «أمّا التشيّع فقد قدّمنا أنّه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضرّه، لا سيّما ولم يكن داعيةً إلى رأيه»(5).
والجوزجاني الذي قال عن عطيّة «مائل»: كان ناصبيّاً منحرفاً عن علي عليه السلام، وكان يطلق هذه الكلمة على الرواة الشيعة… فاستمع إلى ابن حجر يقول:
«خ د ت: إسماعيل بن أبان الورّاق الكوفي، أحد شيوخ البخاري ولم يكثر عنه، وثّقه النسائي، ومطين، وابن معين، والحاكم أبو أحمد، وجعفر الصائغ، والدارقطني، وقال في رواية الحاكم عنه: أثنى عليه أحمد وليس بقوي.
وقال الجوزجاني: كان مائلا عن الحق ولم يكن يكذب في الحديث. يعنى: ما عليه الكوفيون من التشيع.
قلت: الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي، فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان. والصواب موالاتهما جميعاً، ولا ينبغي أن يسمع قول مبتدع في مبتدع»(6).
أقول:
فلا يسمع قول الجوزجاني في عطيّة وأمثاله إلاّ ناصبي منحرف عن علي!!
وأيضاً: قد عرفت ـ في المقدمة ـ تنبيه الحافظ ابن حجر على عدم الاعتداد بالطعن بسبب الاختلاف في العقائد قائلا: «واعلم أنه وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد، فينبغي التنبّه لذلك وعدم الاعتداد به إلاّ بحق»(7).
وقد ذكرنا أنّ الحافظ ابن أبي حاتم الرازي أورد إمامهم الأكبر البخاري في كتاب (الجرح والتعديل)، وأورده الحافظ الذهبي في كتاب (المغني في الضعفاء) لطعن جماعة من الأئمة في البخاري بسبب اختلافه معهم في مسألة اللفظ، وهي من أهم المسائل في العقائد… حتى تضجّر العلاّمة السبكي والعلاّمة المنّاوي من فعل الحافظ الذهبي هذا!!
وممّا يؤكّد ما ذكرنا من كون الرجل من رجال الصحاح، وأنّ تضعيف بعضهم إيّاه إنما هو لأجل الاختلاف في العقائد، وأنه لا يعتدّ به: حذف الحافظ ابن حجر اسم عطيّة العوفي من ميزان الاعتدال، وعدم ذكره في (لسان الميزان)، مشيراً إلى أنّه لا ينبغي الإصغاء إلى تكلّم الجوزجاني ومن كان على شاكلته… في مثل عطيّة التابعي الثقة المعتمد عليه في الكتب المعوّل عليها عندهم… .
10 ـ رأي أحمد في عطيّة:
بقي أنْ نعرف رأي أحمد في عطيّة الذي أكثر عنه في المسند:
جاء في تهذيب التهذيب عن أحمد أنه قال: «هو ضعيف الحديث. ثم قال: بلغني أن عطيّة كان يأتي الكلبي فيسأله عن التفسير، وكان يكنّيه بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد.
قال أحمد: وحدّثنا أبو أحمد الزبيري: سمعت الكلبي يقول: كنّاني عطيّة أبو سعيد».
أقول:
هنا نقاط نضعها على الحروف، أرجو أن يتأمّلها المحقّقون المنصفون، بعد الالتفات إلى ما ذكرناه حول ـ رأي أحمد في المسند ـ وبعد البناء على ثبوت هذا النقل عن أحمد الذي أكثر من الرواية عن عطيّة عن أبي سعيد:
1 ـ إنّ السبب في قوله: «ضعيف الحديث» هو ما ذكره قائلا: «بلغني…» ثم نظرنا فإذا في الجملة اللاّحقة يذكر السند الذي بلغه الخبر به وهو: «أبو أحمد الزبيري سمعت الكلبي يقول…».
2 ـ هذا الكلبي هو: محمّد بن السائب المفسّر المشهور، ووفاته سنة (146)(8)، وقد عرفت أن عطيّة مات سنة (111)(9)، وهذا ما يجعلنا نتردّد في أصل الخبر، ففي أيّ وقت حضر عطيّة في التفسير عند الكلبي؟ وأي مقدار سمع منه؟
3 ـ قال ابن حجر: «قال ابن حبّان ـ بعد أنْ حكى قصته مع الكلبي بلفظ مستغرب فقال: سمع من أبي سعيد أحاديث، فلمّا مات جعل يجالس الكلبي يحضر بصفّته، فإذا قال الكلبي: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم كذا فيحفظه، وكنّاه أبا سعيد، ويروي عنه، فإذا قيل له: من حدّثك بهذا؟ فيقول: حدّثني أبو سعيد، فيتوهّمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبي ـ قال: لا يحلّ كتب حديثه إلاّ على التعجّب».
يفيد هذا النقل:
(أ) أنّ السبب في تضعيف ابن حبّان أيضاً هو هذه القصّة… .
(ب) أنّ القصة ـ إنْ كان لها أصل ـ قد زاد القوم عليها أشياء من عندهم.
(ج) أنّ هذا اللّفظ مستغرب بحيث التجأ ابن حجر إلى الطعن فيه.واعلم أنّ «الدكتور» أورد اللفظ المذكور عن ابن حبان بواسطة ابن حجر وأسقط كلمة «بلفظ مستغرب»!!
4 ـ إنّ الكلبي المذكور رجل قد أجمعوا على تركه، متّهم عندهم بالكذب والرفض، قال ابن سعد: «قالوا: ليس بذاك، في روايته ضعيف جداً»(10).
وقال الذهبي في وفيات سنة (146): «فيها: محمّد بن السائب أبو نضر الكلبي الكوفي، صاحب التفسير والأخبار والأنساب، أجمعوا على تركه، وقد اتّهم بالكذب والرفض. قال ابن عدي: ليس لأحد أطول من تفسيره»(11).
وفي طبقات المفسّرين: «محمّد بن السائب بن بشر الكلبي، أبو النضر الكوفي النسابة المفسر، روى عن: الشعبي وجماعة. وعنه: ابنه، وأبو معاوية، ويزيد، ويعلى بن عبيد، وخلف. متهم بالكذب، ورمي بالرفض. قال البخاري: تركه القطّان وابن مهدي. قال مطيّن: مات سنة (146).
أخرج له: أبو داود في المراسيل، والترمذي وابن ماجة في التفسير.
وله تفسير مشهور، وتفسير الآي الذي نزل في أقوام بأعيانهم، وناسخ القرآن ومنسوخه»(12).
فأقول:
إذا كان هذا الرجل مجمعاً على تركه ومتّهماً بالكذب والرفض، فكيف روى عنه الجماعة وحتى بعض أصحاب الصحاح؟!
الواقع: إنهم كانوا يعتمدون عليه في التفسير، فقد ذكر ابن حجر عن ابن عدي: «حدّث عنه ثقات من الناس ورضوه في التفسير» ولذا روى عنه الترمذي وابن ماجة في التفسير كما عرفت، ولم يكونوا يعتمدون عليه في الحديث، كما عرفت من عبارة ابن سعد حيث قال: «في روايته ضعيف جداً»، بل إنّ مثل عطيّة الذي لازم جماعةً من كبار الصحابة وروى عنهم في غنىً عن الرواية عن الكلبي.
لكنّهم حيث كانوا يأخذون منه التفسير، كانوا يحاولون التستّر على ذلك… لأنّه كان يفسّر الآي ويذكر الأقوام الذين نزلت فيهم بأعيانهم ـ ولعلّه لذا رمي بالكذب والرفض ـ وكذلك كان عطيّة، فإنّه كان يكنّيه، لئلاّ يعرف الرجل فتلاحقه السلطات، لا لغرض التدليس والتلبيس… .
ويشهد بذلك كلام قاضي القضاة ابن خلكان بترجمة الكلبي: «روى عنه سفيان الثوري ومحمّد بن اسحاق، وكانا يقولان: حدّثنا أبو النصر، حتى لا يعرف»(13). فلو كان ما يفعله عطيّة مضراً بوثاقته لتوجّه ذلك بالنسبة إلى سفيان وابن إسحاق… .
بل لَتَوَجّه الطعن في البخاري وكتابه المشهور بالصحيح، فإنّه كان يروي عن «محمّد بن يحيى الذهلي» ـ الذي طرد البخاري من نيسابور، وكتب إلى الري ضدّه، فترك أئمة القوم في الري الحضور عنده والسماع منه ـ فقد جاء بترجمة الذهلي: «أن البخاري يروي عنه ويدلّسه كثيراً، لا يقول: (محمّد بن يحيى) بل يقول: (محمّد) فقط، أو (محمّد بن خالد) أو (محمّد بن عبداللّه) ينسبه إلى الجدّ ويعمّي اسمه، لمكان الواقع بينهما»(14).
فهذا واقع الحال في رواية عطيّة عن الكلبي إن ثبت أصل القضية.
ويؤكّد ما ذكرنا: توثيق ابن سعد وابن معين وغيرهما عطيّة، وروايتهم عنه، فلو كان صنيع عطيّة مضرّاً بوثاقته لما وثّقوه ولا رووا عنه. ولا سيّما أحمد وأرباب الصحاح… ويحيى بن معين الذي روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وسائر الأئمة، وقد وصفوه بإمام الجرح والتعديل وجعلوه المرجع إليه في معرفة الصحيح والسقيم، وربّما قدّموا رأيه على رأي البخاري في الرجال… .
(1) الموضوعات 1 / 99.
(2) شفاء الاسقام في زيارة خير الأنام 10 ـ 11.
(3) تدريب الراوي 1 / 139.
(4) تذكرة خواص الأمة: 42.
(5) مقدمة فتح الباري: 398.
(6) مقدمة فتح الباري: 387 ـ 388.
(7) مقدمة فتح الباري: 382.
(8) انظر: العبر وغيره حوادث 146.
(9) وهو قول ابن سعد ومطيّن والذهبي. قال الذهبي في تاريخ الإسلام: «وقال خليفة: مات سنة 127. وهذا القول غلط».
(10) تهذيب التهذيب 9 / 159.
(11) العبر في خبر من غبر 1 / 158.
(12) طبقات المفسرين 2 / 149.
(13) وفيات الأعيان 3 / 436.
(14) سير أعلام النبلاء 12 / 275.